يزن الحاج
لا تزال مسألة البحث عن «إسلام معتدل» تشكّل أهميّةً كبيرة رغم العدد الهائل من المقالات والأبحاث والكتب التي تحدّثت عن هذه «الظاهرة». بدا الأمر بدايةً «صرعة» توازي الصرعة الأخرى المُستحدَثة، أي عودة الإسلام المتطرّف بصيغته القاعديّة. وبذا انتشرت «إسلامات كثيرة» لم يعد التصنيف القاطع بين معتدل ومتطرّف يكفي لتعريفها، بل بتنا بحاجة إلى تعريفات جديدة لا تلبث أن تحلّ محلّ التعريفات القديمة، فتعود الحاجة مرةً أخرى إلى تعريفات أكثر جِدّة.
اللافت في الأمر أنّ جميع تلك الإسلامات، على اختلافها، تحمل لواء الإصلاح الدينيّ، سواء كان إسلام أنظمةٍ أم إسلاماً سياسياً أم إسلاماً عقائدياً؛ بل حتّى الحركات المتطرّفة حملت راية «إصلاحٍ» أخرى بمعنى العودة إلى الجذور، وتصحيح مسار الإسلام الحاليّ.
في الواقع، لم تكن الفوارق كبيرة بين تلك الإسلامات على تباينها الظاهريّ؛ فجميعها تؤمن بـ «الإسلام ديناً ودولة»، ويبقى الفارق الضئيل هو في مدى تأويلها لهذه الآية أو تلك، أو هذا الحديث أو ذاك.
انتهت حرب التعريفات أخيراً، لتبدأ حرب التأويلات التي يمكن بتدقيقٍ بسيط اكتشاف تهافتها. من هذه النقطة بالذات، ينطلق كتاب المغربيّ سعيد ناشيد «الحداثة والقرآن» (دار التنوير)، ليؤكّد أنّ مسألة اختلاف التأويلات لا معنى لها إذا لم نقم بتحييد القرآن، بمعنى نزع القدسيّة الإلهيّة عنه، بحيث يعود – كما هو فعلاً – «نصّاً بشرياً». يحاجج ناشيد أنّ القرآن يعبّر عن ثلاث قضايا لا يجوز الخلط بينها: «أولاً، قضيّة الوحي الإلهيّ؛ ثانياً، قضيّة القرآن المحمّديّ؛ ثالثاً، قضيّة «المصحف العثمانيّ». ويعتمد في طرح هذه المحاجّة على الكاتبين الإيرانيّين عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري، علاوةً على محاضرات لأحمد القبانجي.
قبل الدخول في تفاصيل الكتاب، لا بد من ملاحظة أنّ ناشيد يؤكّد منذ البداية على إيمانه. يبدو الأمر هنا خطوةً استباقيّة ضدّ تكفيرٍ قادم، من جهة، وتأكيداً على أنّ حفريّاته في القرآن تنطلق من داخل البوتقة الإيمانيّة -الإسلاميّة، من دون أن نجد أن هذا الأمر نقطة قوّة بالضّرورة، إلا إذا ربطناها مع الفصول الأخيرة من الكتاب التي تبدو أشبه ببيانات تبشيريّة للدخول في «الإسلام الجديد الحداثي»، بحيث يبدو الفارق واضحاً بين الفصول الأولى العقلانيّة الصارمة، والفصول الأخيرة الأقرب إلى مفهوم الدعاة الجدد، مع وجوب تأكيد الفارق بين ناشيد وبينهم بالطبع.
يشير ناشيد إلى أنّنا لا نعرف القرآن إلا من خلال تمظهره الأخير، أي المصحف العثمانيّ. أما التمظهران الأوّلان، فهما خارج نطاق التداول لأنّ الأول (الإلهيّ) كان وحياً خاصاً من الربّ إلى نبيّه. أما الثاني، فهو التأويل النبويّ لهذا الوحي، وقد طرأت عليه تغيّرات كثيرة وتحويرات شتّى بحيث بات من المستحيل تقريباً استعادته بتمامه، إلا ضمن دراسة سوسيوثقافيّة للنبيّ وعصره وبيئته، بحيث يمكن القول إنّنا «لم نعد نملك من كلام الله إلا كلام رسول الله على وجه التحديد». ويشدّد المؤلّف على أنّ أي تناولٍ للقرآن يجب أن ينطلق من كونه خطاباً تعبّدياً فقط، من دون أن يكون كتاباً في اللغة أو الاقتصاد أو السياسة أو حتى الأخلاق. أما تمظهره النبويّ، فينبغي تناوله كذلك من داخل العصر النبويّ ووعيه وثقافته. القرآن «خطاب يعكس في مضمونه مفاهيم وقيم العالم القديم، عالم ما قبل نشوء الدولة، وما قبل نشوء العلم، وماقبل قيم المواطنة»، ولا يصلح بالتالي «دستوراً» لعالمنا الحديث كما يقول لنا الإسلاميّون على اختلاف أطيافهم. وقد كان هذا القرآن مرآةً لذلك العصر القديم، فكان من الطبيعيّ أن يتناغم مع شخصيّة النبيّ من حيث كونه يتيماً، وتاجراً، ومقاتلاً. وسنجد هذه الإشارات واضحةً في القرآن الذي وُجد بلغة عصره ذاك، وموجَّهاً إلى إنسان ذلك العصر: إنسان العصر الوسيط بمفاهيمه ما قبل الثورة الكوبرنيكيّة علمياً، وما قبل الدولة، وحتى ما قبل القواعد النحويّة. ولذا نجد الإحالات الخاطئة علمياً في الحديث عن ثبات الأرض وحركة الشمس، وسياسياً في الحديث عن الشورى والسلطة الذكوريّة، ولغوياً في الأساليب النحويّة القديمة قبل تكريس القواعد، «ما يفسّر أوجه الاختلال والأخطاء في النصّ المدوّن».
ويؤكّد ناشيد أن هذه المقاربة للقرآن لا تعني بأيّ حال من الأحوال الانتقاص من الذات الإلهيّة، فالقرآن «خطابٌ نسبيٌّ أمام إطلاقيّة الذات الإلهيّة، ومحدود أمام لامحدوديّة العوالم الممكنة». بل إنّ الانتقاص يكون فعلياً عند «تقديس النصّ» بدل «تقديس الله»، بحيث يصل إلى درجة «عبادة النصّ»، كما يفعل السلفيّون والمتطرّفون، بل وحتّى المعتدلون بهذه الدرجة أو تلك. عمليّة الانتقال من الشفاهيّ إلى الكتابيّ تتضمّن بالضرورة وجود هفوات ونسيان أشار إليها القرآن أحياناً، والأحاديث النبويّة أحياناً أخرى، علاوةً على ما وصلنا من تاريخ الصحابة وكتبة الوحي ومراحل جمع القرآن، ووضعه ضمن مصحف عثمانيّ موحّد استلزم حرق وإتلاف جميع المصاحف المخالفة.
بالرغم من هجوم ناشيد على دعاة الإسلام المعتدل واعتبارهم أقرب إلى الضبابيّة في تناولهم للمسائل الشائكة، على عكس وضوح الخطاب المتشدّد بسبب استناده إلى «نص مقدّس»، إلا أنّه يدعو على نحو غير مباشر إلى تكريس اعتدالٍ من نوع آخر، حين يؤكّد أنّ «المسلم العاديّ لا يميل إلى خطاب التشدّد … وفي المقابل ينتظر الناس سماع خطاب معتدل وواضح أيضاً. وهذا غير متوافر في الواقع أو ليس بعد». وتقوم دعوة ناشيد إلى هذا «الاعتدال الواضح» عبر التأكيد (كما أشار محمد شحرور من قبل) على أنّ الإسلام لا يقتصر على الشريعة المحمّديّة بل يمتد على طول الأديان التوحيديّة ابتداء من إبراهيم واختتاماً بمحمّد. الفارق بين شحرور وناشيد أنّ ناشيد ينسف مفهوم التأويل اللغويّ الذي هو أساس مشروع شحرور، ليكرّس بدلاً منه صيغةً شبه- صوفيّة للدين تكون فيها الأولويّة للروح الشعريّة التي أقصاها الإسلاميّون من الحقلين الدينيّ واللاهوتيّ «فاتحين الباب على مصراعيه أمام الكهنة وتجّار الأوهام». وعلى أيّ حال، بصرف النظر عن مدى توافق أفكارنا مع أطروحات الكتاب، يبقى العمل شديد الأهميّة في أفكاره وتاريخ صدوره، بحيث لا نبالغ لو قلنا إنّه يسهم في زلزلة أساسات الايديولوجيا الإسلاميّة بأكملها، على اختلاف درجات تطرّفها أو اعتدالها، بخاصة لو انطلقنا من الجملة الافتتاحيّة في الكتاب «الإيمان تعبيرٌ عفويّ قد يستدعي الخروج عن النّص».
________
*المصدر: كلمات
العدد ٢٧٤١