*عباس بيضون
خسرنا أنسي الحاج وسعيد عقل في عام واحد تقريبا ومن حقنا على أنفسنا أن نتذكرهما ولم يشارف العام نهايته إلا بالكاد على غيابهما. لكننا في التذكار مثلنا في التأبين. لا يفوتنا الاحتفال ولا نفوته. تمر الذكرى فلا نقتطع منها لحياتنا ولحياة الأدب ولا تتم فيها إعادة قراءة أو مراجعة من أي نوع. إنما هي تأبين على تأبين ومرثية على مرثية. وما نفعله فيها ليس سوى فصاحة على فصاحة. ما من مراجعة، فالأرجح هو تكريس وكأن موت الكاتب لا يؤذن بقراءة ثانية له وإنما يقطع الطريق على كل قراءة، فقد انتهى زمانها وما بقي منها إنما هو المصادقة فالمصادقة عليها، ما بقي إنما هو التثبيت. وانطلاقاً منه ليس إلا الاحتفال بمعناه الفولكلوري والرثاء بما هو مديح ومبايعة وتفخيم، أي أننا نخسر هنا الفقيد كلياً إذ لا يبقى لنا منه إلا قصة الوداع، إن لم تكن مواويل الوداع.
في حال كهذه تكون مجاراة الفقيد ومحاكاته فنتكلم عنه بصوته وربما بكلماته وغالباً بأسلوبه. نقول فيه ما نحسب أنه يستحبه وما نظن أنه يناسبه وأنه من سنخ كلامه. وقد لا نجد في كلام أنسي ما يكفي لنخلعه عليه، فأنسي ابن عصر كان التواري فيه مأثرة والكلام السلبي والغاضب والسرطاني والمجروح والمجدف والرافض المتراجع إلى حكمة نافية وإلى اعتراض مكسور. أمر كهذا يبقى على الحد وعلى الشفرة، فلا يمكن أن ننتج منه رقصة ولا فولكلوراً ولا احتفالاً ولا يمكن خلعه على صاحبه وامتداحه به، فثمة في هذا الكلام تضارب ومفارقات تعيق الاحتفال، وثمة فيه قساوة ومرارة وتنصل وهذه لا تصنع موالاً شعبياً وهذه لا تصلح لجزالة وحذاقة وتفنن وتفاصح من أي نوع. الأرجح أن أنسي في هذا المجال يحرج مؤبنيه والمحتفلين به والواقفين لذكراه. إن ما صنعه لم يبلغ خاتمة ولا نهاية وإنما ترك نصاً غير مكتمل، نصاً مفتوحاً على أفق مستور، نصاً مبتوراً لا يسعنا إلا أن نعاود النظر فيه، ففيه ما ينبو عن التكريس وما يجافي التثبيت وما لا يسمح بمجرد المصادقة، إنما يستدعي بدون شك قراءة ثانية، فالنص الحاجي لم يتكرس بعد، ولم يتثبت في ديوان العرب، وما زال مصدر قلق وحيرة وما زال مستفزاً ومحرجاً، وما زالت سلبيته ضاربة وغالبة. فلا يمكن والحال هذه تجنب العودة إلى الأصل، ولا يمكن أن ننقطع عن هذا الأصل ونحلق عنه من دون مساءلته من جديد، ومن دون إعادة النظر فيه وقراءته بأعين راهنة وجديدة، قد يعمد كثيرون إلى الكتابة عن أنسي من سمعة توفرها «لن» مجموعته الأولى. بالأحرى توفرها مقدمته لـ»لن». لكن هذه قراءة مبتورة، بل هذه ليست قراءة فلكم رجع أنسي عن «لن»، ولكم رجع عن كل شيء، وترك وراءه فضاءً من التراجعات التي تحتاج إلى من ينظمها ويبني منها. والحال أن نصوص أنسي ليست سوى اختبارات في اللغة والفكر والذات متعددة وشتى ومتباينة وإن كان وراءها التشوف نفسه والقلق نفسه والتمرد نفسه. لكن سلسلة انكسارات من هذا النوع لا تنتج فصاحة ما يمكن توظيفها فولكلورياً، ولا تنتج سياقات بسيطة يمكن إعادة إنتاجها ولا تنتج أسلوباً واحداً يمكن مجاراته وقلبه إلى مرثية لصاحبه. نص أنسي ليس الجزالة ولا الفخامة ولا الفصاحة فيلذ للفم ويلذ للسمع ويلذ للإنشاد والإلقاء، ويمكن تصنيعه والتصنيع منه. إنما هو نص معلق موقوف متعدد، نص بزوايا وانطعاجات وكسورات فلا يمكن نسْقه ونظمه بقدر ما يمكن تفجيره وتحطيبه وبناء تماثيل جياكوميتية منه.
كان أنسي يحب سعيد عقل، كان ذلك من ردة تسامحية جعلته يشفق على نفسه وعلى الجميع، والأرجح أن حبه لسعيد عقل كان اختباراً ذاتياً للتسامح. أنا أيضاً أحب سعيد عقل، ليس للسبب ذاته، بل لأن سعيد عقل شاعر مفصلي لولاه لما كانت الحداثة الشعرية، قد لا يكون أنسي بالذات مديوناً لسعيد عقل إلا بهذا المعنى، وقد نكون نحن جميعاً مديونين له على هذا النحو. لكن سعيد عقل ليس حديثاً ولو زامن الحداثة، ليس حديثاً وإنما هو بين بين، كان تشوقه هو بدون شك إلى الماضي. كان الشعر نفساً عالياً وحرفة محسوبة فيما لم يكن لأنسي إلا تعبيراً. وكان ثمة فرق بين نيوكلاسيكية سعيد عقل وتعبيرية أنسي الحاج. الشعر عند سعيد عقل موزاييك مصنوع حجراً حجراً وموازنة بين حجر وحجر وبين لون ولون وبين إيقاع وصمت، فيما كان شعر أنسي الحاج صداماً لغوياً يترك شظايا وجذاذات ودماً أسود وفوضى تتوازن ولا تتوازن. لذا يمكننا أن نمدح سعيد عقل بلغته وبكلامه وأن نسقطه عليه. أن يكون المتكلم سعيد عقل لحظة كلامه عن سعيد عقل، فسعيد عقل ترك منذ ديوانه الأول طريقة كلام سُميت حينها بالرمزية، والأرجح أنها أسست لما قد نسميه اليوم المدرسة اللبنانية في الشعر، لم يكن سعيد عقل الأول فيها فقد سبقه إليها جبران وصلاح لبكي ويوسف غصوب لكنها تركزت واكتملت على يده. المهم أن سعيد عقل اجترح في شعره، وكان جانب من شعره اجتراحاً لكن اجتراحه كان من العجيب المباغت، وهذا العجيب يهوّل أحياناً ويصيب كبد الفكرة والواقع أحياناً أخرى. إلا أن تشوف سعيد عقل كان لهذا العجيب الذي يصيب ولا يصيب فلا غرابة في أن ينحو تلاميذه نحوه في ذلك، ولا غرابة في أن يسقط مادحوه هذا العجيب عليه، والحق أن سعيد عقل كان كشخص متقمصاً شعره، فهذا العجيب كان دائماً في كلامه وفي إماراته وفي وجهه وفي حركاته وفي صوته حين يتكلم. لم يكن سعيد عقل ابن عصر سبقته إليه التعبيرية والسيرالية وسبقه إليه بودلير ورامبو ولوثريامون. كان معاصراً ولو بعدت الشقة لأبي تمام والبحتري وابن المعتز وكورناي وفاليري. كان جانب كبير من مباراته وسجاله مع هؤلاء، كان يتفنن مثلهم وينغّم مثلهم، وبالطبع كان مثلهم متصالحاً مع نفسه ومع لغته ومع حرفته، كان فوق ذلك الشاعر ومثال الشاعر والأديب وشخص الأديب، ينظم ويتكلم كما ينظم. كأنه في كل لحظة لا يحيد عن صورة الشاعر، بل كانت هذه الصورة تفيض على غيرها فينتج منها الشاعر والسياسي والاقتصادي واللاهوتي على الأقل. كان مدّاحاً كبيراً ولكن لنفسه أولاً ولسنا في ذكراه السنوية أقل حاجة إلى كلامه عن نفسه ونسعده حين نسقطه ثانية عليه حين نمدحه بكلامه أو نجترح كلاماً مماثلاً له فنكون، كما أن «سعيد عقل يمدح سعيد عقل» وطالما فعل سعيد عقل لنفسه ذلك، فلا أقل من أن نجاريه فيه. أما أنسي فليس لنا في ذكراه إلا أن نجمع شظاياه ونسمع لهاثه يخترق أيامنا المظلمة ويسميها لنا.
______
*السفير الثقافي