ماذا يفعل الآن رأسُ المعرّي؟


أدونيس


1-
إنّه المسرَح إيّاه، (ومشهده الفاجع الأخير في باريس).
أحداثُه دمٌ. وأبطالُه مجرّدُ آلات.
تضطرب الساحة. تنْشَقّ الخشبة. أنهكَتْهما أعباءُ المسرح: ولادةً، وتربيةً، نظراً وعملاً، إرادةً ومصيراً.
المشاهدون حشودٌ وقارّات. عسكرٌ بأسلحة، وعسكرٌ بلا أسلحة. وعسكرٌ بين بين. أطفالٌ في صُوَر دبّابات. نساءٌ في صور بنادق. شيوخٌ في صور هياكل وقبور.
جسمُ الحاضر يستلقي على جسم الماضي. التذاذاً ونشوةً، غالباً. هواجسَ وأسئلةً، أحياناً. مَنِ الممثِّلون؟ مَن الجمهور؟ ما المسرحيّة؟
ما البدايات؟ ما النهايات؟
حشْدُ أقدامٍ ورؤوس،
أكياسٍ وصناديق،
مفاتيح وأقفال،
عيونٍ وآذانٍ وشفاه،
أكتافٍ وسواعدَ.
المتعةُ عارمةٌ، والهاجِسُ لا يُقال.
لا عطر الوردة، بل جسمها. لا القلب، بل التغضُّناتُ والتّجاعيد. الحرامُ المُحَلَّل، الحلالُ المحرّمُ. الإسرافُ لكن في القمع، والرّدْع، والمَنْع. وتكادُ كلُّ نقطةٍ في جسم المسرح أن تكون ينبوعاً للدّلالة: بؤساً، وتفتُّتاً، وانقراضاً.
– 2 –
الممثِّل الأكبر هو «المناخ»، أو لِنَقُلْ: «الجوّ».
قلّما يرفع هذا الممثِّلُ رأساً إلّا مربوطاً بعروةٍ ضخمةٍ من كُتَلِ رؤوسٍ أخرى تتشابك في جرمٍ يتشبّه بالإنسان.
قلّما يتحرّك إلّا احتيالاً ومخاتلةً.
قلّما يتكلّم إلّا مَكراً وافتراءً.
تمثيلٌ بائسٌ لحاضرٍ بائسٍ في تاريخٍ بائسٍ على مسرح بائس.
«جوٌّ» – «ممثِّلٌ»:
حول عنقه حبلٌ اسمُه الواقع.
يغزو دروبَ الحياة وبيوتها،
يسبي أطفالها ويقدّمهم هدايا إلى مدارس فيروسية.
بين وقتٍ وآخر، يصعد الآباءُ إلى الخشبة إيّاها. يمتطون أحصنةً تبدو ظاهريّاً كمثل أجسامٍ من دمٍ ولحم. غير أنها في الحقيقة أشكالٌ وتلفيقاتٌ خشبية.
صديقُك المكان، أيّها «الجوّ»، يحبّ حرف «الحاء».
لكنّه غير ذلك الذي تبدأ به كلمة «حريّة»، أو كلمة «حبّ» أو كلمة
«حياة». التباسٌ لا يعرف أحدٌ إن كان يجيء من التباس الحروف، أو من التباس العقول.
إنّه «المناخ – الجوُّ» الأمثل:
تُدفَنُ ينابيعُ الأمس في رمل اليوم،
يُحوَّل العالمُ شيئاً فشيئاً إلى شرطيٍّ بأجسامٍ كثيرة، ورأسٍ واحد.
«وما هذه المسرحية»؟ يتساءل المُشاهِد.
العقدةُ فيها وحشٌ، لكن ليس في صيده والقبض عليه أيُّ حلّ.
وما هذه «الحكمة السّائدة» تلك التي تُعلِّم السّمكةَ فنّ السِّباحة، وتقول للطّائر كيف يطير، وأين، ومتى؟
وراء هذه الحكمة، كما يبدو، كائنٌ غريبٌ، خرج سرّاً من خاصرة الظُّلمة، ولم يصلْ بعد إلى الضّوء.
إنّه الزّمن – لا يرى من الأشياء إلا قفاها، ويهرب دائماً من
رؤية الوجه.
إنّه المعنى – لا تنبجسُ ينابيعُه إلّا من مغاور الشّقاء،
إنّه البوقُ يبتلع موسيقى الأرض.
إنّه المسرح – يُعلِن أنّه يُعنى بالحياة، ولا يحتفي إلّا بالموت.
– 3 –
ماذا يفعل الآن على هذا المسرح رأسُ المعرّي؟
أو بماذا يفكّر، أيّاً كان مكانُ إقامته – على حدّ سَيْفٍ،
أو في سِجْنٍ أو بين يدَيْ مجهولٍ أو معلوم؟
كيف أشكره، شخصيّاً، لأنّه علّمني أن أتحدّث عن الفضاء
مع أجنحةٍ مقصوصةٍ، وأن أعيش مع بلبُلٍ في قفصٍ واحد.
هل يجد حرَجاً إذا أكّدْتُ له اليوم ما كان يقوله أمسِ،
ويُعَدُّ مُنكَراً؟
لا يزال قمحُ الواقع يُطبَخُ على نار التوهُّم.
هل يسمح لي أن أكرِّره صارخاً بصوته:
أنتَ، يا مَن يُريد أن يغيِّر هذا العالم،
لماذا لا تتسلّحُ إلّا بالقَتْل؟
– 4 –
كَلّا، كَلّا،
لا أريدُ أن أمنع يديَّ مِن رَمْي النّرد على خشبة هذا المسرح،
كلّا، كلّا،
لا أحبُّ أن أشكِّك في خطط الغيوم.
وكم هي حكيمةٌ، أحياناً،
تلك الطّرُقُ التي تبتكرها السّلاحف.
– 5 –
«انظرْ، مِن زاويةٍ أخرى، في هذا المسرح، من نافذةِ
هذه الطّائرة:
تشكُّلات غيومٍ لا يحدُّها الظنّ،
تِلالٌ وغابات،
حقولٌ – بعضُها بَوارٌ، وبعضُها للحراثة،
شقوقٌ كمثل البيوتِ في أحضان الجبال،
بُقَعٌ في أشكال فراشاتٍ وطيورٍ وأشجارٍ.
الأفق دفترٌ، كلماتٌ، فواصِلُ، نقاطٌ…»
«أكملي، أكملي،
كأنّني أتعرّف على حياتيَ طائرةً…»
– 6 –
في زاويةٍ أخرى من المسرح تعلو، مطموسةً أو خافِتةً،
أصواتٌ ثانية:
أ ـ لا تَزِنْ حياتَكَ إلّا بما لا يوزَن:
الضّوء.
ب ـ ما أمَرَّ ثمرَها،
تلك الأشجارُ في الحقولِ التي يحرثُها الغَيْب.
ج ـ إنْ لم تكن الحياةُ ابتكاراً،
فَلَن تكونَ إلّا تقليداً للموت.
د ـ لا يعرف الإنسانُ يديه،
بقدْرِ ما يفكِّر،
بل بقدْرِ ما يعمل.
هـ ـ الشّمسُ مركزُ الكون،
مع ذلك تحجبها خِرْقَةٌ بحجم الإصبع.
و ـ الإنسانُ، منظوراً إليه بعين الشّيء،
لا شيء.
ز ـ أعضاءُ الجسَدِ أجنحةٌ للروح.
ح ـ في ضوء ما هو قائمٌ في العالم كلِّه،
سيظلُّ الزّمَنُ أعرجَ ومسجوناً.
ط ـ أظنُّ أنّ للحياة العربيّة، اليوم، اسماً واحِداً
هو الموت.
ي ـ ما هذا الغرب الذي لا يرى الشّرقَ إلّا آلةً،
هو وحده الذي يُسَيِّرها.
– 7 –
لكن،
في تجوالِنا بين زوايا هذا المسرح، نعثر على أكثر من زاويةٍ
تنتمي إلى عائلة اللّانهاية.
باسم هذه اللانهاية، وباسم اللغة العربية – مندرِجَةً فيها،
يبتكر الخَجَلُ العربيّ قبوراً سرّيّةً يَدفُنُ فيها الأفرادَ العرب
الذين يُقتَلون ويُذبَحون، كلّ يوم.
يكتب على كلّ قَبْرٍ هذه الشّاهدة:
لا يستطيع أحَدٌ
أن يقتلعَ جذورَ الأجنحة
من الفضاء.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *