لسعد المنهالي *
لم يتم تناول شخصية حسن الشحاذ في رواية “قواعد العشق الأربعون” سوى مرتين في عدد صفحات محدود جداً، مع أن عدد صفحات الرواية زاد عن الخمسمائة، وذلك رغماً عن ثراء الشخصية في المظهر العام والتركيب النفسي والتساؤلات التي طرحتها خلال ظهورها المحدود، فضلاً عن غياب أي محاولة لكاتبة الرواية فيما بعد في سبر أغوار هذه الأسئلة، فبدا وكأن الكاتبة نسيت طرحها تماماً. تتناول الرواية سيرة العلامة جلال الدين الرومي وعلاقته بشمس التبريزي، أو هكذا يروّج لها، بينما الحقيقة أنها تضع “شمس” في واجهة كل خطوط الرواية.
يظهر حسن الشحاذ في المشهد الأول له في الرواية بأحد شوارع مدينة قونية التركية، وهو منحنٍ على نفسه ملفح وجهه الذي امتلأ بثوراً وقيحاً وتشوهات بسبب الجذام بخرقة بالية تحميه من نظرات الناس المؤلمة، وخوفاً من أن يلمحه أحدهم فيطرده من المكان لدمامة خلقه وبشاعة هيئته. وأثناء خوفه هذا يلتهي الناس برجل يظهر على جواد أبيض منتصباً بوقار وكأنه على معرفة تامة بمهابة الشخص الذي يمتطيه، يلحق الناس بطريق الرجل ويتبعه معجبوه ومريدوه إلى أن يصل إلى المسجد الذي لم يبق فيه مكان لمصلٍ آخر بعد أن امتلأ بمن قدموا ليستمعوا خطبته يوم الجمعة. وفقت الكاتبة التركية “إليف شافاق” في هذا المشهد بإظهار التناقض الصارخ بين الشخصيتين اللتين بدأتا بالكاد تظهران في الرواية بعد 150 صفحة من العمل، فالأمور تظهر أكثر جلاءً في حضور أضدادها.
أكد جلال الدين الرومي في خطبته أن لا شيء يقربنا من الله إلا المعاناة والألم. ومع هذا الوعظ الذي بدأه ابن الرومي، تبدأ التساؤلات تدور في ذهن حسن الشحاذ، عن أي ألم ومعاناة يتحدث ابن الرومي؟ وهل يعرف مثله معنى هذه الكلمات؟ فهو ابن رجل مرموق ورث اسم عائلة غنية وشهيرة، ويعيش حياة رغدة، وتتلمذ على يد أفضل العلماء، وكان محبوباً ومدللاً ومحترماً على الدوام، منح الثروة والنجاح والحكمة وأصبح بسمعته النقية وسلوكه الراقي كمن لا ينتمي لهذا العالم. كيف يعرف من له كل ذلك معنى المعاناة والألم، هل خبر منها شيئاً، ماذا يعرف عن الفقر والمعاناة والتعاسة والحاجة؟! يزداد حسن الشحاذ استياءً من الرومي، وأزداد أنا استياءً من الكاتبة لعدم محاولتها بأي شكل من الأشكال العبور على هذه الاستفهامات خلال سردها لحياة جلال الرومي في الرواية!
تحيلني أسئلة حسن الشحاذ لأطرحها في زمن مختلف تماماً يبعد قروناً طويلة وأميالاً بعيدة عن قونية، على أولئك الذين يحدثوننا عن الله وعن معرفته والتقرب منه عبر عظات وخطب يستمع لها الألوف برهبة. طرحت أسئلتي وأنا أرى بعضهم وقد وقف يصرخ أو وهو يرّهبنا من المعصية، وتساءلت: هل جرب هذا قوة الغواية؟ لماذا لا يحدثنا رجال الدين عن لحظات ضعفهم، وكيف استطاعوا أن يتغلبوا عليها بدل إرشادهم الذي يسردونه علينا بلا أي روح من الواقع والحقيقة؟ لماذا لا يحدثوننا عن الطريقة التي علينا أن نتعامل بها مع عذابات النفس التي تصيب الإنسان عندما تغلبه شهوته وهو عاجز رغم كل وعيه وظروف مجتمعه على قهرها؟ لماذا لا يحدثوننا كثيراً عن غفران الله ورحمته بعباده التائبين؟ لماذا لا يقولون لنا من هو المؤمن القوي فعلاً.. ذلك الذي اجتمعت له محصنات الكون ورفاهية العيش وحصن نفسه، أم ذلك الذي عاش في مستنقع الحياة وتمكن من وقاية نفسه؟! هناك الكثير الذي عليهم الخوض فيه، أو هكذا أعتقد.
– الاتحاد
* أديبة من الإمارات ” رئيسة تحرير ناشيونال جيوغرافيك بالعربية “