ليلة صالحة للحياة


محمد فطومي


حليمة تغفر للنّاس الغشاوة التي تجعلهم يخلطون بين القسوة وبين الحسم المُوفّق. ولا تراها ضريبة باهظة أن يُساء بها الظنّ مادامت على صواب. في الأخير ما الذي يُرجى من العبد غير الظّلم؟ ولقد دأبت كلّ صباح على أن ترسل ابنتها إلى المدرسة وعزيزة ابنة زوجها إلى المحطّة كي تتسوّل. لقّنتها مرّة واحدة ونهائيّة ماذا عليها أن تقول وكيف عليها أن تتصرّف لإثارة الشّفقة: «قولي إنّ أمّك في المستشفى لا تغادره أبدا.. وقولي إخوتي الصّغار في عنقي». لكنّها ما انفكّت تكرّر على مسامعها: «لا تسمحي لأيّ كائن أن يلمسك أو يداعبك.. لسنا نلعب..!» عادة تُردفُ حليمة كلامها بعبارات زجر كما لو أنّ البنت ارتكبت فعلا أمرا مماثلا من قَبلُ.
 تجهّز الفطور لابنتها وتكتفي بدسّ رغيف خبز في جيب عزيزة، تلفّه لها في أوّل كيس تعثر عليه، حين يكون الرّغيف طريّا كانت تعطيها إيّاه مكشوفا. أحيانا عندما يتعذّر عليها إيجاد كيس في متناول اليد، كانت تُخرج كيسا من الدّلو الصَّدِئ المُعدّ للقمامة، تنفضه بحركة واحدة وتضع فيه الرّغيف، حريصة على ألاّ تنتبه عزيزة. كانت تقول لها: «الحرّة تعوّل على نفسها.. المدارس جُعلت فقط للحائرات». 

لا تُعلّق عزيزة على أيّ من كلام زوجة أبيها إلاّ إذا ارتبط الأمر بسؤال يستوجب الردّ. وحليمة لا تخلف الصّلاة في مواقيتها، ماعدا الفجر فهي تصلّيه عندما تستيقظ. تسخّن عزيزة الماء حين تكون في البيت لتتوضّأ زوجة أبيها. تبدأ حليمة صلاتها مع الآذان وتنهيها مع انتهائه أيّا كان عدد الرّكعات، ثمّ تتّخذ جلسة مريحة قبالة التلفزيون ساندة ظهرها إلى الجدار، وأناملها تداعب حبّات المسبحة، وعلى وجهها ملامح خيبة الظنّ كما لتُشعر زوجها بأنّها تعصي الله بمعاشرتها إيّاه. أمّا عزيزة فتعيش على فتات كلّ شيء. بقايا البرامج التلفزيونيّة بعد إتمام الشّغل في البيت، آخر الجمل التي تنطق بها أختها وهي تردّد بصوت عال دروس القراءة والأناشيد. بقايا الطّعام. وأخيرا لمام الجهد البدنيّ لتحلم يقِظة بعض الوقت. تحلم عزيزة بأشياءَ لها لا تشارك أحدا فيها، إذ لا معنى إطلاقا لاحتمال أن يشاركها أحدهم شيئا ما. تريد قارورة كوكاكولا كاملة لها وحدها.

 درّاجة ومقطعا طويلا من الوقت دون تحذير أو عمل شاقّ، حذاء ينتهي بفراء على مستوى الكعبين، وفستانا مُلوّنا وحلوى. فيما يبقى لها من طاقة للتّفكير مُفتّحة العينين، تطلق العنان لمُخيّلتها فترى نفسها في صورة فوتوغرافيّة جماعيّة، كالصّورة المعلّقة في غرفة المعيشة، تلك التي تبدو فيها أختها وسط أصحابها، شاحبة كأنّ أحدهم قشّر موضعها بسكّين. على حداثة سنّها كانت تعي على نحو ما وبسريرة هادئة أنّها واحدة من الموجودات التي لا غنى لعائلتها عنها كي يعيشوا بسلام، تماما كمحفظة أختها والموقد. وعزيزة غير محرومة تماما من حلاوة العناق والاحتضان، فهي تحتضن أشياءَ مثل أختها الخارجة من الحمام للتوّ، وأبوها تحتضنه بكفّيْ ساقيها من جهة ظهره عندما يكون في حاجة إليها كي تمشي فوقه. واحتضنت مرّة ملابس أمّها على نحو يجعل أيّا كان يعتقد بأنّها الطّريقة المثلى لحملها. 

كان ذلك عندما طلبت منها حليمة أن تُلقي بها «تحت» ريثما يحرقونها. سمعتها تقول لوالدها : «أكره ملابس الموتى.. أشعر أنّها حيكت في العالم الآخر من قِبَلِ أموات». في تلك المناسبة احتضنت عزيزة شيئا. ضمّت ملابس أمّها إليها بقوّة. وراحت تتعثّر في الأكمام والأوشحة. دسّت وجهها في الكومة، فغمرتها رائحة عرق أمّها الذي لم يعد خلال أشهرها الأخيرة سوى إفرازات أدوية ولا شيء غير ذلك. خدر لذيذ أخذها، تمنّت معه لو أنّ زوجة أبيها طلبت منها إلقاء الملابس في الحاوية الحديديّة هناك، بعيدا، حيث تبدأ المنازل المطليّة من الخارج أيضا.

في البداية لم تكن القطع الهزيلة التي تعود بها مبالغ تستحقّ الذّكر، هي قطع جُلّ ما يمكن أن يُقال بشأنها إنّها أفضل من وجود عزيزة في البيت. لكن في يوم عادت بقطع نقدية كثيرة، فيها ما هو أبيض. كدّستها أمام حليمة. حاولت المرأة إخفاء سرورها لكنّ غنّة في حنجرتها أبت إلاّ أن تطفو على نبرة صوتها لأيّام. عندما سألتها عن سرّ وفرة المال، أجابت إنّها تخبر النّاس الحقيقة، هذا كلّ ما في الأمر. وقال والدها بصوت متحشرج كأنّه يسعل:«عزيزة لا تكذب».


كلّفته عبارته تلك ليلتين دون عشاء، وشهرا كاملا دون وجبة فراش واحدة. في البيت لا أحد يخطر له أن يتساءل كيف تُخلي حليمة المطبخ من كلّ ما يصلح للأكل في لمح البصر، ثمّ في لمح البصر توجده عندما تنتهي مدّة العقوبة. لم تحاول حليمة رغم فضولها الكاوي أن تفهم من عزيزة ما الذي تعنيه بإخبار النّاس الحقيقة، وما هذه الحقيقة التي يدفع النّاس مقابل معرفتها مبالغ سخيّة؟ أحسّت بالخوف وبشعور مخز بأنّ الشّيطانة الصّغيرة لا تملأ راحتها بالمال، بل تحشو لها عروقها بالوحل، وفكّرت أنّ الأمر سيكون شبيها بتقليب صخرة مُهملة لو فاتحتها في الموضوع. دار في خلدها أنّ الشّجاعة بحقّ لا تكمن في قول الحقيقة بل في الإصغاء إليها. لن تجازف.


يوما بعد يوم راحت عزيزة تكبر والحقيقة تكبر على لسانها، ولم تعد المحطّة تكفيها، فانطلقت تجوب المدينة مردّدة الحقيقة، كانت المبالغ التي تجمعها تزيد. بلطف سألتها زوجة أبيها عن السرّ وقد بلغ بها الحنق والفضول مبلغا يساوي في تقديرها أنّها بدأت تفقد فضيلة الصّواب وتنزلق نحو سلوك انتحاريّ. أجابت إنّها تقول الحقيقة. وقال والدها: «إنّ عزيزة لا تكذب». لم تعد حليمة تكترث بأمره، منذ باتت آلام عجزها عن التقدّم خطوة لاستدراج عزيزة إلى طمأنتها أشدّ قسوة من الشّلل الذي يصيب المرء في الكوابيس. مع ذلك عاقبته بسحب جميع خدماتها حتّى يفعل الله ما في علمه.
اكتمل جسم عزيزة وصار لديها نهدان نافران وأرداف تُلاحَظ وطول رجل، تحسّست مفاتنها وراقصت جسمها أمام المرآة خلسة. أحسّت ساعتها أنّها تمتلك العالم وأنّه في حاجة إليها. أمّا حليمة فلا بأس عليها مادامت توشك على الانتهاء من مهمّتها في بيت «المشؤوم» كما درجت على تسمية زوجها كلّما اضطرّت إلى ذلك أثناء حواراتها المقتضبة مع جارات الرّصيف بائعات الشّاي الأسود، ورغم يقينها باقتراب موعد هربها غانمة ثمن عزيزة المعروضة للبيع، فقد غامرت بالمبيت خارج البيت أكثر من ليلة، فحليمة تَسألُ ولا تُسأل. وكانت ليلة ساكنة صالحة للحياة تلك التي صادفت أحد اختفاءاتها. قسم من حلم عزيزة تحقّق ليلتها، فقد نامت ملـء جفونها دون أن يكون آخر ما أصابته قبل نومها فضلات أحد. كان والدها ممدّدا في أقصى الغرفة. هواء حافل بالمرض دفعه باتّجاه عزيزة. نهض مشدود الجبهة، جاحظ العينين. أحسّ وهو يخطو صوبها بأنّه يتحلّل بسرعة جنونيّة. الاحتراق المُتسارع قَدْرٌ لا قبل لأحد به من البطء.


ما أشهى العدم المُطبق! كان إثما أن تكون بشرتها بذلك اللّون وأصابعها بذلك الشّكل. لم تقل أمّها الحقيقة بشأن حملها. مؤكّد أنّها خانته مع رجل آخر في غيابه. حدّث نفسه. خفّة شبيهة بانعدام الوزن سيطرت عليه وهو يتأمّلها سابحا في يقينه الجديد. تقدّم منها. الهواء حافل بالمرض وحشد من البراهين يتحالف مع يد حليمة المرفوعة عنه.. جثا على ركبتيه بجانبها ثمّ بيدين مرتعشتين أزاح اللّحاف عنها من جهة خصرها. للحظة خُيّل إليه أنّه قد حرّر وحشا بإماطته الغطاء عنها. لم تشعر البنت بشيء. صدّقها قائلا في سرّه: «عزيزة لا تكذب».
مهما يكن من أمر. غدا عندما تأتي «المدام» لتتسلّمها سيكون في المقدّمة ليتفاوض معها بشأن سعرها، فهو والدها وهو الرّجل.. لن تأخذه بها رحمة أو شفقة.. وليحتفظ، بعد ذلك، برأيه كلّ من لم يعش عيشته ولم يرَ ما رآه.. النّاس الذين على قلوبهم غشاوة لن يفهموا أبدا أنّ بين النّاس من استحقّ عقوبته وبينهم من هو جدير بها.. لأربع مناسبات، وهي عائدة مساء، رآها تدوس عمدا سطر نمل آمن!
_______
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *