لويز بورجوا.. حياتها وفنها وخطوطها الحمراء

رؤيا سعد*

 

خاص ( ثقافات )

 

عندما تتوفر الطاقة الكامنة في نقطة تفجرها حاول الكثير من المبدعين الانطلاق نحو العفوية والبراءة، عند الوقوف أمام اللوحة وتحريك الفرشاة على القماش، منذ ظهور أعمال شيجال وما بدأه السرياليون في حملتهم، وصولاً إلى ما تناوله ميرو وكاندنسكي، للوصول إلى لحظة تغييب الوعي، وإيجاد الانسجام بين الذات والرؤية الجمالية، فنجد أن الفنانة لويز بورجوا جوزفين تدمج الأحاسيس والانفعالات الذاتية بما يحيطها من مؤثرات ووقائع، مع خطوطها وألوانها وحفرياتها وتماثيلها الخشبية على ظهر التكوين، لتظهر اندماج وتناسق بين الموهبة والمعرفة.

لويز بورجوا جوزفين فنانة فرنسية اشتهرت على نطاق واسع بأعمالها في الإنستليشن “التركيب” في النحت والرسم أيضاً، تناولت مجموعة من المواضيع التي تخص الأسرة والحياة الجنسية والجسد وكذلك الموت واللاوعي، والتي تراوح أغلبها بين التجريدية في الغالب وبعضها يوحي بالأشكال البشرية المتوحدة، القلقة، والمصدومة بشكل من الأشكال التعبيرية والسريالية بقواسم مشتركة كما صنفها البعض بالفن النسائي إلا أنها صرحت بأنها لا تنتمي إلا لنفسها ولا تنتمي إلى أي مدرسة غيرها.

 

ولدت بورجوا في باريس عام 1911 في 25 ديسمبر وكانت الابنة الثالثة من بين أربعة من لويس بورجوا كان والدها يمتلك معملاً صغيراً للنسيج ووالدتها تعينه على صناعة النسيج حيث كانت نساجة ماهرة كان والدها زير نساء مستبداً منغمساً في علاقاته الغرامية مع “سَيْدي”، مربية لويز ومعلمتها لمادة اللغة الإنجليزية وغيرها ووالدة جوزفين كانت ذكية صابرة لا تحاسب والدها على خيانته لها رغم علمها بها ووجدت أن من المريح لها أن تغض النظر عن هذه العلاقات، مما أثر على حياة لويزا حيث انحازت بميلها إلى والدتها أكثر من والدها في عام 1930، دخلت بورجوا جامعة السوربون لدراسة الرياضيات والهندسة.

 

ماتت والدتها في عام 1932، في حين أنهت بورجوا دراسة الرياضيات، والتي كانت والدتها تعارض دراستها الرياضيات وتدعوها لدراسة الفن عكس والدها الذي كان يعارض تلك الفكرة بزعمه أن الفن مهنة الخاسرين الفاشلين، لكنها أصرت على تلبية رغبة والدتها التي لمست بها روح الإبداع والابتكار من خلال لمسات الطفلة الفنية في النسيج والرسم والتصميم وأصرّت على تحقيق هذا الحلم الجميل الذي يداعب مخيلتها ليل نهار. فقامت بمواصلة الفن من خلال الانضمام إلى مراحل دراسية للطلاب الناطقين باللغة الإنجليزية فأصبحت مضطرة إلى تعلم تلك اللغة وحينها التقت الفنان فرناند ليجيه الذي وجدها ذات أسلوب حداثي مختلف عن رفيقاتها فنصحها بأنها ستكون نحاتة ذات شأن أكثر من كونها رسامة تخرجت في جامعة السوربون تلك الجامعة البرجوازية عام 1935 واستمرت بدراسة الفن حتى عام 1937 – 1938 في أكاديمية دي لا غراندي، والتي تعنى بمختلف المدارس الفنية وينشر من خلاها الأعمال الفنية ذات القيمة الجمالية في المتاحف المشهورة كمتحف اللوفر ومدرسة الفنون الجميلة وخلال ارتيادها هذه المدرسة أصبحت تطاردها خيانات والدها لوالدتها، مما جعل هذه الفكرة هي الفكرة الأساس للإلهام حيث كشفت لها الجانب الإبداعي في ذاتها والمتراكم نتيجة ترسب الصدمات التي تعرضت لها في مرحلة الطفولة، وهي تركز على جسم الإنسان وحاجته للرعاية والحماية في عالم محموم بالاستغلال مخيف، ويعرف هذا الأسلوب بالنزعة الأوتوبيوغرافية كانت الفنانة تغرف من سيرتها الذاتية والكثير من ثيماتها الأساسية تشبهها تصنعها لتجعلها منحوتات أو رسومات.

 

تزوجت من الفنان الأمريكي روبرت غولدووتر 1938 أستاذ الفنون في جامعة نيويورك للفنون الجميلة، وهو مورخ الفن الأمريكي للفن البدائي والذي بدوره شجعها على تطوير ذاتها وفنها بإسداء نصيحة لشراء مجلدات لبيكاسو والمحادثات السريالية والاتجاهات الحديثة في الفن بعدها هاجروا معاً إلى نيويورك وأقامت الفنانة مع زوجها هناك قامت بنحت مجموعة الخشب الطافي حيث قامت بنحت القطع الخشبية كفقاقيع ودهنها بالشوائب المموهة مع تثبيت المسامير لمنح بعض الانطباعات الفنية ولإضفاء جو عاطفي على بعضها، وكذلك كانت تسلط الضوء على الإنسان في حالات نومه حيث يكون في أشد حالات صفائه وضعفه معاً. إن أعمال بورجوا دائماً ما تكون نتائج لتجارب الماضي لم تستطع الانسلاخ عما عانته في الماضي منه في المستقبل، فهي تقول إنه متنفس أن أضع تجاربي في الماضي بعمل ما حيث إني وجدت الإلهام حتى وإن كان مؤقتاً” كي يعوضني عن سنوات الطفولة والإساءة التي تعرضنا أنا ووالدتي لها من قبل والدي، فقد وضعت ثقتي كلها في الفن.

 

 

في عام 1954 انضمت الفنانة إلى مجموعة الفنانين الامريكان المعاصرين من بينهم بارنيت نيومان وراينهارت. في هذا الوقت أصبحت صديقة أيضاً للفنانين ويليم دي كوننغ ومارك روثكو، وجاكسون بولوك. هذه الصحبة منحتها تطوراً ونضجاً فكرياً وعملياً، مما جعلها تنتقل من الحفر على الخشب والنسيج إلى الرخام والجص والبرونز، كما أنها مثلت هواجسها في تلك الخامات كالخوف والضعف وفقدان السيطرة. وكان هذا التغيير في الأسلوب نقطة تحول. مما طور فكرة الصراعات مما بلور وصقل تجاربها وصراعاتها من خلال إنجاز أعمال فريدة ومميزة منذ البدء رفضت نسبها إلى الفن النسوي لكنها أخذت محاور مواضيعها تتجه نحو الإناث أكثر من الذكور قامت بعمل ميزون بين عامي (1946-1947)، والجذع عام (1963-1964)، وقوس الهستيريا (1993)، وكلها تصور الجسم الأنثوي. والأعضاء التناسلية الأنثوية كمنحوتات جنسية صريحة مثل يانوس فلوري، (1968) وأيضا “تدمير الأب” 1974 و”ماما” 1999، اللذين يعدان من أبرز أعمالها النحتية والتركيبية. 

 

بعض المواضيع كانت جريئة كموضوع السحاق والمثلية محور قضاياها علماً بأنها لا تنتمي لهذه الشريحة من البشر، لكنها انطلقت من مبدأ أن لكل شخص حريته فيما يعيش ويسلك جنسياً أو اجتماعياً ذكر مع ذكر أو أنثى مع أنثى أو بالطرق التقليدية التي يتقبلها المجتمع وتصرح بأنها لم تكن خائفة من استخدام الجسد الأنثوي في أعمالها وبابتكار متناهٍ أقامت الفنانة أول معرض شخصي لها عام 1982، ويعتبره النقاد قد تاخر كثيراً كونها من الفنانين الطليعيين الأوائل، ولكونها تعرضت للتهميش من قبل الجهات والأوساط، وذلك يعود لعدم استقرارها في بلدها وعدم انتمائها للمجتمع الأمريكي من جهة ولقلقها الشخصي أيضاً، فهي منذ الصغر كانت تعيش حالة نفسية متوترة غير مستقرة.

 

 

في عام 2011 قامت ببيع عملها الشهير “ماما” العنكبوت بسعر 10700000 $، وهو سعر قياسي جديد يعتبر أعلى سعر يدفع لعمل أنجزته امرأة في مزاد علني ومنحوتة “ماما” التي أنجزتها بورجوا عام 1999 والتي استعملت فيها العنكبوت كهيكل رمزي شديد الدلالة بالنسبة إليها. نُفِّذت هذه المنحوتة من الفولاذ والرخام بارتفاع 30 قدماً، وبعرض 33 قدماً، وتحتوي على كيس يضم 26 بيضة رخامية، أما بطن العنكبوت وصدره فهما مصنوعان من برونز مضلع. ومن الجدير بالذكر أن النسخة الأصلية مصنوعة من الفولاذ، أما النسخ الست الأخرى فقد صنعت من البرونز. ومنحوتة العنكبوت تقول عنها الفنانة إنها ترنيمة “ماما” وقصيدتها وأمي هي أقرب أصدقائي. كانت أمي تنسج الغزل كالعنكبوت لكن أمي كائن نافع ليس على غرار العناكب المؤذية التي تأكل الكائنات الصغيرة. أمي هي الإنسان الوحيد الذي أثر بي وبذاتي وبفني. ترمز منحوتة العنكبوت إلى قوة أم لويز مع استعارة إلى قدرتها الواضحة في الغزل والنسيـج، فقد كانت هي الشخص الوحيد الذي رعاها واهتم بها منذ الصغر حتى الباب وثمة موضوعات كثيرة تجسدها الفنانة لويز بورجوا وعلى رأسها الجنس بشتى أشكاله والتي لا تجد حرجاً في البوح بها، فهي كما أسلفنا فنانة بَوْحية قبل كل شيء وقد استثمرت سيرتها العائلية أفضل استثمار، حتى قيل عنها إنها فنانة وإنسانة بلا أسرار.

‫‬

*تشكيلية ومترجمة عراقية.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *