سينما البعد الثلاثي: الجيل الجديد.. وتماهي الكرتون مع الواقع!




مهند النابلسي*


خاص ( ثقات )
ما الذي نتذكره عادة عن بلجيكا: الشوكلاته، ومخبر سري بشارب غريب وتان تان، هكذا تلخص بلجيكا بهذه الأشياء الثلاثة الطريفة، كما يمكن أن تلخص بريطانيا بالقبعات وطقوس الشاي! ولكن الأمر ليس بمثل هذه البراءة، فبلجيكا معروفة أيضاً باستعمارها الاستحواذي العنيف للكونغو، كما أن بريطانيا معروفة بنفوذها الاستعماري التاريخي والويلات التي أذاقتها لشعوب المعمورة، وما زلنا كعرب نتذكر بمرارة وعد بلفور اللعين!

ولكن “تانتان” هو شيء آخر، فهو أيقونة الرسوم المصورة، وكلنا يتذكر الصبي المراهق الطريف بوجهه المستدير وغرة شعره الشقراء المميزة، وقد أصبح مغروساً في ذاكرتنا نحن عشاق مغامراته الرائعة حول العالم وطرافة الشخصيات من الكابتن هادوك السكير للمخبرين وعميلي شرطة الإنتربول التوأمين طومبسون.

لذا فإنه من الصعب أن تذهب لرؤية هذا الإبداع الجديد “لشبيلبيرغ وجاكسون” بلا هذه الانطباعات المسبقة، ومن المستحيل أن تتخيل أشياء لم يسبق أن شاهدتها في هذه القصص الكرتونية المصورة، وهنا يكمن التحدي في إنجاز هذا الشريط الثلاثي الأبعاد، كذلك يبدع شبيلبيرغ بالتعاون مع جاكسون في ابتكار نسخة سينمائية تستحق المشاهدة لدرجة المتعة والدهشة، حيث يبدو أن المخرج الأمريكي الشهير قد استهل عمله في أفلام البعد الثلاثي بهذا العمل الفائق الإتقان، مستخدماً نفس التقنيات التي استخدمها جيمس كاميرون في “آفاتار” ومحافظاً في آن على جوهر الجرافيك المميز لكاتب القصص البلجيكي الشهير هيرج (اسمه الحقيقي جورج ريمي) والألوان البراقة المعبرة، متعاوناً مع كتاب سيناريو أفذاذ مثل ستيفن موفات، إدجار رايت وجو كورنيش، وبأصوات ممثلين مشهورين كجامي بيل، دانييل جريج (صاحب شخصية جيمس بوند)، سيمون بيغ ونيك بروست.

لقد استطاع شبيلبيرغ أن يقدم مواهب متميزة في “التصميم الغرافي”، وأن يقدم رؤية سينمائية حقيقية لأبطال “قصص مصورة” بشكل غير معهود، حتى كدنا نشعر بأن هذه الكائنات تكاد تكون بشرية وطبيعية تدب فيها الحياة، ويبدو ذلك جلياً في لقطة الغناء في الإمارة المغربية، وذلك عندما تشدو مغنية أوبرالية بصوت عذب ومؤثر وصادح يؤدي لتكسير الزجاج في أنحاء الحفل، وحيث تركز الكاميرا على شخصيات متفاعلة تبدو كشخصيات بشرية حقيقية، وحتى يتمكن شبيلبيرغ من الخروج بمثل هذه النتيجة الباهرة، فقد تم رصد الحركات المتنوعة للشخصيات بواسطة مائة كاميرا، وتم تغذية كل البيانات لخلق المؤثرات الثلاثية المطلوبة لحركة الممثل، كمثال عندما يركض الكابتن هادوك تقوم هذه الكاميرات بالإلمام بكل الإيماءات العاطفية والحركات الجسدية ضمن فراغ ثلاثي الأبعاد، كذلك فأنت كمشاهد تكاد تحس بروح الممثل “جامي ببل” عندما تشاهد “تان تان” يتحرك ويتحدث!
الفيلم يقدم هذا النمط من المغامرات بحس واقعي مدهش وبطريقة متتابعة جذابة وبجدية تخلو منها أفلام الكرتون عادة، كالصراع للاستحواذ على نموذج السفينة، وكالمعارك التي خاضها جد الكابتن هادوك للتغلب على القراصنة، وكالملاحقات الطريفة ما بين تان تان وكلبه الظريف “سنووي” والعقاب لسرقة كلمة السر وخارطة الكنز، ناهيك عن المبارزة اللافتة ما بين الرافعات الضخمة على رصيف الميناء التي بدت وكأنها حقيقية، وكالدبابة التي تجر فندقاً صغيراً ليصبح بمحاذاة شاطئ البحر، وكذلك في كيفية الاستيلاء على الطائرة المعطوبة والهبوط بها سالمين في كثبان الصحراء الأفريقية الكبرى، وغيرها من اللقطات اللافتة الطريفة!
يذكرنا الفيلم نوعاً ما بشريط أنديانا جونز لنفس المخرج ولنمط المغامرات المثيرة والمدهشة، وحيث يدخلنا في أجواء الحنين للطفولة والبراءة عندما كنا كصغار نختطف مجلة الأطفال الشهيرة “سمير” لنقرأ بشغف بالغ مغامرات الصحفي الشاب اليانع تان تان حول العالم (والذي لم يكتب مقالاً واحداً)!
تركز الحبكة في هذا الفيلم على السعي الحثيث للحصول على كنز كبير خبأه أسلاف الكابتن هادوك، وإن كان التركيز المبالغ به على حالة السكر والإدمان التي يعاني منها الكابتن الطريف قد يجعله يؤثر سلباً على المشاهدين الصغار!
لقد حقق شبيلبيرغ كعادته اختراقاً نوعياً في نمط إخراج هذا الفيلم الثلاثي الأبعاد، وقدم لنا مزيجاً ممتعاً من الحركة والدعابة وحتى الكوميديا بإيقاع لاهث، وقدم مؤشرات في نهاية الفيلم على النية لإخراج جزء جديد، وما زال المشوار طويلاً إذا ما لاحظنا وجود أكثر من عشرين مغامرة تنتظر مخرجاً مبدعاً ليقدمها للشاشة الفضية.
يقول شبيلبيرغ عن طريقة إخراجه لهذا الفيلم أنه جعله كالرسام قادراً على فعل أشياء متنوعة لم يتعود القيام بها سابقاً، وأقول أنا إن الجرأة على إخراج هذه الرسوم المصورة بهذا الشكل الإبداعي ستشعل المنافسة لتناول العديد من مغامرات تان تان التي تتطرق لأحداث تاريخية كالثورة البلشفية ولأحداث الحرب العالمية الثانية، وللتطرق لمغامرات مثيرة تدور أحداثها في الكونغو ومصر الفرعونية والتيبت والصين وتتعرض حتى لقرش البحر الأحمر ولاستكشاف القمر، وحتى للفنون الحديثة في القصة الأخيرة التي كتبها ولم تكتمل بعد بسبب وفاة مؤلف الرسوم جورج ريمي في العام 1983، إذا لنحضر أنفسنا لدخول عالم جديد من الدهشة والإبداع والتسلية. والسؤال التي يستحق الطرح لماذا تم اختيار القصة رقم 11 والتي كتبت بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يتم تناول قصة أخرى من القصص المثيرة المتنوعة؟ ربما لأسباب تجارية وبهدف مواكبة أفلام القراصنة والبحث عن الكنوز الدفينة في قاع المحيطات، وربما كاستهلال وتجريب تمهيداً لاقتحام عالم تان تان الحافل بالمغامرات والتنوع.
* ناقد فني من الأردن

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *