محمود درويش.. “زواج عتريس من فؤاده باطل”


علي عبيدات*

خاص ( ثقافات )

خصوصيّة
من منا لا يرى القصيدة دولة، سواء كان كاتباً أو قارئاً يستظل في ظلال القصيدة العربية وتربى على إرثها وصقلت هويّته، فهو المنغمس بالشعر العربي منذ جاهليّات التاريخ ومروراً بتديّنه حتى عصرنّته وحداثته التي نمشي صوبها منذ منتصف القرن الماضي، هذه الدولة التي شهدت ألف سلطة في نظام حكمها الشعري منذ أوس بن حجر ونُهشل والمرقش الأكبر ومهلهل ربيعة، وحتى عمود هذا المقال محمود درويش الذي أسبغ على هالة الشعر العربي ألوان طيفه وحدّة قوس قزحَه بنكهة شعره الكوني، وبين كاتب القصيدة والمتلذذ بها يمر تاريخ الشعر.
أفلح درويش في شق طريقه وتدشين دعائم اسمه وشعريته، حتى تجاوزت تجربته الشعرية تبعات التجربة وإرهاصات التجديد، وقد صُيرَّ لها أن تُعتبر تياراً شعرياً مستقلاً، أسسّه برسم شخصيته الصرفة الجديدة، ليصبح درويش شيخ طريقة وحوله المريدون، تلك الطريقة التي صنعها وحده -وهذا على صعيد بصمته الخاصة- وتشارك مع جيله وشركائه الحداثيين لتكون طريقته ضرباً جديداً من ضروب الحداثة التي بدأ بها رفاقه ومن سبقوه بقليل، وقد تقاطع معهم وتقاطعوا معه ليتمخض عن هذا اللقاء، شعرية عربية جديدة وخطى ثابتة نحو الحداثة الحقّة.
ولا يعتبّر تشارك دوريش مواظبةً على طريق الآخرين، فلم يصل مكملاً لتجربة أحد، وما اقتفى أثر أحدهم مستظلاً بظله، فقد وصل وبدأ واندفع نحو الأوج بمعية نفسه فقط، حتى أن تقليد الشعراء له (شعراء النثر تحديداً) كان غير ممكن، على نفس درجة عدم تقليده لمن سبقوه ولمعاصريه، فما قَلَدَّ بشكلٍ مُطلق، وما قُلِدَّ بشكل مُطلق أيضاً، وهذا يجعلنا نؤمن بمدى خصوصية درويش التي جعلته يترك بصمته الكبيرة والمؤثرة، فمنذ أن بدأت بواكير درويش ترى النور ونحن نرى التجديد شكلاً ومضموناً، وبين قصيدة أخي العبري التي ألقاها في الذكرى العاشرة للنكبة وحتى رحيله وانسياقه إلى حضرة الغياب ونحن نرى الجديد واللامسبوق، ليُغير درويش الكثير من التآلفات والتقابلات التي تماهينا معها وأِلفْناها وصارت عُرفاً في لغتنا وركناً لا يتزعزع من أركان شعريتنا الحديثة.
فتح درويش باب الشعر ليجد أمامه الأسماء الكبيرة، ففي العراق كان السياب في مرحلته التموزية، وكان البياتي منساقاً إلى ماركسيته، وكان بُلند الحيدري يبتكر ويكتُبُ قصيدة كاملة في حبة الأسبرين، وكان الجواهري حامل لواء الأصالة، وفي مِصر كان عبد الصبور ومضامينه الشعرية المترعة بالخلود، وعبد المعطي حجازي الذي كان من أبناء المشروع القومي والوحدة العربية، وأمل دنقل الذي قال فيه درويش:”كان يسكن في بيت من الشعر”، ومحمود حسن اسماعيل صاحب الأوزان والمضامين الشعرية الجديدة وغيرهم من جيل الستينيات وآخر الخمسينيات.
وعلى الجهة الأخرى يقف أدونيس وخليل حاوي ومحمد الماغوط ويوسف الخال وغيرهم، فأين الجديد الذي سيقدمه درويش ليكون بين هذه الأسماء وليجاري أصحابها؟ ففي بيئة ثقافية كهذه ينبغي على المرء أن يفكر مطولاً لكي يطرح اسمه وليشهر سيفه. لكن حضور درويش هنا وبين هذه الجوقة يبرهن بأن درويش وصل كبيراً ويعي ما يقول وما سيكون، فكم من شاعرٍ لمع اسمه وعاد لينطفئ، وهناك العديد من الأسماء التي أقحمت نفسها في عالم الأدب بخفة السارق وخرجت منه بنفس المُسمى، فلو لم يكن درويش عقليةً شعريةً فذَّة لما استمر وواصل مسيرته.
جواز عتريس من فؤاده باطل
يعدُّ التقليد طقساً ثقافياً اعتاده أعضاء المؤسسة الثقافية العالمية وكل إخوة الإبداع في هذا الكون، ودرويش كغيره من الشعراء الكبار يملك مُقلدين لشعره وغرقى في شاعريّته وسائبون في أسلوبيّته ومرضى بنهجه وقطاع طرق يتربصون للقصيدة خلف تخومه وبين مخاديف كيّانه الشعري، لكن تجاوز هذا مفهوم الأصل التلقيد والشيخ والمريد والهائم وأصل الهيَّام، فلو راجع المرء الإصدارات الشعرية العربية منذ ربع قرن -على الأقل- حتى الآن لوجد عطر وبذلة وصوت وربما ساعة يد محمود درويش بين هذه البنى والسياقات الشعرية، فثمة سباق مع الزمن تجريه طائفة شعراء مُقلدين مع شعر درويش ويظهر هذا عند العارف بالشعر وأحواله، فيختلط على المُقَلِد التناص بالاقتباس وتتوجب الإحالة كثيراً في معمعة التضمين، ونكون أمام النحول بكامل مهابّة الغِش في غير موضع أمام هذه الإصدارات.
من السهل أن يأتي المرء بنماذج شعرية لشعراء يصنفون من الدرجة الثانية أو الثالثة بينما تتجلى على قبتها هالة التقليد الصرف، لكن لو جئنا بنموذج أو عشرة نماذج سنظلم مَنْ جيءَ به ونحكم على من نسيناه بالبراءة من السرقة وهو الموغل بها وهي التي تستشري بين أدق تفاصيله، كما أن الهالة الدرويشية تحيط جيلاً كاملاً، وبالطبع فرَّ منها شعراء مجيدون لم يتنفسوا من رئة درويش وأعجبهم عطره تماماً كما أعجبهم شعره لكن لهم خصوصيّتهم وشعريتهم الخاصة التي لم تختلط بهويّة أحد، ونُصِيْبُ لو قلنا أن درويش صاحب نبوءة شعرية لكن لا يجوز أن يكون إلهاً، فالنبي يكتفي بالرسالة أما الإله فهو تكوين الرسالة وأصل الخطاب ومن لا يجوز تجاوزه، ولا أحسبُ نبوءة درويش قيمة أقل منه لكنه ليس إلهاً، وعلى حد قول أصدقائه كان طاووسياً في بعض الأحيان لكنه لم يكن نرسيس وكان صاحب “المايكروفون” في الجلسة لكنه لو يكن مستبداً، فإذا كانت صفاته البشرية على هذا النحو فكيف تكون تجلياته الشعرية التي تعلمنا عليها جميعاً، هو لا يريد أن يكون إلهاً لكن المُقلدُ مريض بالتأليه.
لو اعتبرنا أن تقليد دوريش خدمة للشعر والشعراء، فمن المفيد أن يكون درويش موطئاً للشعراء وسمتاً سماوياً نحلم بمجاراته، لكن أن نعيش تحت عباءته ونتزوج مشروعه الشعري زواجاً كاثوليكياً لا فكاك منه يفقد هوية الزوجين ويشوه وجه الأولاد فبوسعنا أن نقول “زواج عتريس من فؤاده باطل” فلو كان الدفق الشعري الخاص بدرويش “فؤاده” التي شبهها الأديب ثروة أباظة بمصر الحرة في فيلم شيء من الخوف لكان مُقلِد درويش من تزوج بمشروعه عنوة “عتريس” هذا الظالم الجاني.
تعالوا نخلق المشاريع الشعرية البريئة، ونردد قول درويش وهو يلعب النرد: “من أنا لأقول لكم”.
_________
شاعر ومترجم من الأردن.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *