* إبراهيم صموئيل
“لو كان محمود درويش حيا الآن لكنا ارتوينا من فيض شعره، من رذاذ إشاراته ومجازاته واستعاراته وصوره، ولكان تعطشنا ارتوى لا من فنه وتجلياته فحسب، وإنما أيضا من اتجاه بوصلة روحه ووجدانه وإحساسه العميق إزاء ما يجري. فالمبدعون الكبار يرون ما قد يخفى عن أبصارنا وبصائرنا، ويحدسون بما قد يغيب عن حدوسنا”.
ذلك ما تمنيته وكتبته في الذكرى الرابعة لرحيله، ولطالما كنت مترعا باليقين الراسخ من أن محمود درويش في عالم الشعر لا يُشهد له بل يُستشهد به فحسب. وهو -من دون شك- ليس وحيدا مفردا، غير أن شعره فرادة فذة منذ نهار آخر الليل إلى ما هو أبعد من زهر اللوز.
قصيدة بعد قصيدة، وعاما بعد عام كان درويش يبني لنا وفينا صرح الشعر العربي الحديث. يشيد ذائقتنا للشعر وينهض بها ويعمقها، ويفسح في المجال أمامها لتستكشف بؤر الجمال، مواطن الأسرار، دلالات المعنى، وإشارات الطريق الشعرية ورموزها التي لا تنتهي إلى.. بل تكون، في ذاتها، المتعة وزوادة الحياة في آن.
ولعل أعظم ما في المسيرة الإبداعية لهذا الرجل ليس كونه شاعر القضية الفلسطينية -على الرغم من انتمائه إليها ونهوضه بها واحتضانها له- وإنما كونه شاعرنا. شاعر يمكن للقارئ العربي أن يتكنى به، أو أن يقول ببساطة: أنا من الشعب الذي أنجب محمود درويش، تماما كما الغبطة التي تمور فينا نحن القراء العرب، وتتقد حين نباهي بانتمائنا إلى شعب أنبتت أرض إبداعه الأدبي قامات مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وسعد الله ونوس وغيرهم.
لست في مجال الشهادة لمحمود درويش، أنا في صدد الاعتراف بأنني من بين كل ما كان ينكس رأسي في الواقع العربي، ويدفعني للمداراة والتحفظ بل والتواري خجلا مما كانت عليه حيواتنا وأوضاعنا ومصائرنا، من بين كل ذلك المذل المهين والمخزي، من بين كل تلك الانهيارات العربية والتصدعات المروعة، أجدني مرفوع الروح بهذا الشاعر، ناهض القلب، ثابت القدمين على جزيرة إبداعه في وسط الخراب العميم.
لِشعره تدين ذائقتنا بالترقي، ولِشعره يعود انفساح الرؤية فينا، وبشعره على الأخص وعلى التفرد، تحققت معادلة لطالما ظلت نظرية خيالية مشتهاة كنيّت بالصعبة أو المستحيلة: التحليق بالشعر أعلى فأعلى في فضاءات الفن وآفاقه من جهة والتغلغل أوسع فأوسع بين الناس القراء من جهة أخرى.
وهذا إنجاز عظيم لمحمود درويش لم يسعفه (الحظ) في تحقيقه، ولا خصّته (ربات) الشعر به من دون غيره، بل هو ثمرة للشغل الدؤوب والعنيد على أدواته الشعرية، وكذلك لموهبته التي أفاد منها إلى الحد الأقصى وعرف بإدراك عميق وعقل نقدي، كيف يُقيم طقوس الشعر من دون أن يقدم الأضاحي على مذبحه، سواء من جهة تقليص مساحة القراء أو من جهة خفض ذرى الفن.
هل لأن درويش لم يولد شاعرا كبيرا منذ بداياته، بل هو “ولد بالتقسيط” -على حد تعبيره في حوار معه- مما مكنه مرحلة بعد أخرى من توسيع وتطوير وتعميق عالمه الشعري دون الإخلال بالتنامي والاتساع المستمر لأرض قرائه؟
هل لأنه فلسطيني ارتبط اسمه بقضية كبيرة الوزن وبالغة الحساسية؟ هل لأن الإعلام العربي أفرد له ما لم يفرده لغيره من المتابعة والتقصي؟ هل لأن النقد الأدبي خصّه بالاهتمام البالغ وتابع تجربته الشعرية؟
عبثا سنقف على سبب بعينه، وعبثا سنضم الأسباب مجتمعة، ففي اعتقادي أن محمود درويش -كما المتنبي وكما كل المبدعين الكبار في العالم بأسره- حالة، أو موهبة فذّة سنظل نحار في أسبابها وعواملها ومعطياتها، فنفسر ونحلل ونجتهد ما أسعفنا التحليل الأدبي وأغاثنا الاجتهاد من دون أن نتمكن من وضع أيدينا على (السرّ). السر الغامض، الشائك، والمستعصي الذي يمنح شعبا ما مبدعا عظيما مثله.
فهل تحتاج هبة محمود درويش الشعرية الخلاقة هذه أن يشهد لها، أم يكفي أن نستشهد بها معترفين بما وفّرته لنا من متعة في الفن ومعنى في الحياة ؟
ولعل مما يبهج القلب ويرضي العقل ويكمل المسيرة الإبداعية والحياتية لشاعرنا العظيم أنه لاقى وهو ما يزال حيا بيننا -على خلاف العديد من المبدعين العرب- ما يستحق من التكريم، والاحتفاء، وما يجدر بمنجزه الشعري من الاهتمام لا النقدي فحسب، وإنما الجماهيري أيضا إذ يندر لشاعر عربي أن تغص أرض ومدرجات الملاعب الرياضية بالعدد الهائل من قراء شعره ومحبيه كما كانت تغصّ لأمسيات محمود درويش.
إن تخصيص ملفات وملتقيات لشعر درويش وعنه خلال حياته ووجوده معنا لهو عمل مجيد وبالغ الأهمية لجهد وموهبة وإبداع هذا الرجل كي يشاهد بعينيه، ويغتبط بقلبه، وتفعم روحه بما يستحق أن يشاهده ويشعر به كل المبدعين الكبار في العالم أمثاله وهم أحياء يرزقون بين شعوبهم.
فأزهار العرفان والاهتمام والتقدير لا جدوى منها، ولا نفع لها، إن هي زرعت ونثرت حول قبور المبدعين الكبار بعد رحيلهم، وهي ليست سوى تعبير عن اعتذارات متأخرة تؤكد خطايا التقصير خلال حيواتهم.
الآن، وبعد سنوات خمس على رحيله، أحسب أن شعر درويش سيبقى في ذاكرتنا وفي وجداننا وعلى ألسنتنا. أحسب أنه وما أنجزه عصيّان على النسيان، عصيان على الحت جراء تقادم الزمن، إذ من يحضر من المبدعين العظماء -في كل فن وأدب وفكر- ومن يملأ الدنيا ويشغل الناس بأصالة إبداعه، وعمقه، وتحقيقه للمعادلة الصعبة.. يظل حاضراً -كما المتنبي منذ ألف عام إلى اليوم- ويظل ماثلا في الذاكرة، ويانعا في الذائقة حتى بعد أن يرحل وتطوي السنون في غيابه ما تطوي من المراحل والحقب.
______________
كاتب وقاص سوري (الجزيرة)