*غصون رحال
خاص ( ثقافات )
أم “توماس” سيدة عادية قاربت على الستين من العمر ، تميل إلى السمنة وتفتقر إلى الأناقة الفائقة. تتحلى بملامح إنجليزية أصيلة من بياض ناصع للبشرة زرقة في العينين وشقرة في الشعر. هي امرأة بسيطة؛ هادئة، مسالمة، مؤمنة بالفطرة، ومستسلمة لعثرات الزمن مثل آلاف الأمهات ذوات الحظ العاثر في بلادنا ممّن فقدن أبناءهن لصالح القاعدة وداعش وأخواتهما من التنظيمات الإرهابية.
ليس هناك ما يميّزها سوى أنها قرّرت ان تكفكف دمعها ، تخرج عن صمتها وتفعل شيئا.
نظّمت حملة لمحاربة نزعات الرايدكالية والتطّرف التي أخذت تنخر عظام المجتمع البريطاني وتستقطب مراهقيه وفتيانه.
في حفل إطلاق الحملة ووقفت أمام الجمع الغفير الذي حضر لمساندتها ، حبست دموعها، ضبطت نبرة صوتها المرتعشة، وخاطبتهم بكلمات عفوية من دون أوراق أو تحضير مسبق ، عبّرت من خلالها عن مشاعر أمّ فجعت بفقدان ابنها قائلة:
“لم اكن أتخيل أن يعتريني مثل هذا الخواء ، الضياع ، والحزن الغامر.
لا شيء يمكنني فعله لتحسين هذا الوضع . لقد رحل … إني متألّمة وكذلك غاضبة ، غاضبة لأنه فعل ذلك بنفسه.
أشعر بالحزن لفقدان ولدي ، لكنني أشعر بالارتياح أيضا لأنه لن يستطيع إيذاء أناس أبرياء بعد اليوم”.
ما الذي يمكن أن تشعر به أي أم حين تتلقى خبر مقتل ابنها عبر مكالمة هاتفية آخر الليل ؟
مثل أي أمّ، كانت لها آمال وتخيّلات بأن ترى ابنها سعيدا متفوقا ومستقرا ، وكانت تعي أن المراهقة ما هي إلا مرحلة لاستطلاع الحياة واكتشاف الذات، يغرف منها المراهق بحواسه الخمس ما شاء له من الخبرات التي تمكّنه من رسم هويته وتكوين شخصيته، فتركت لابنها حرية الاستطلاع والاكتشاف دون تدخّل مباشر. لكن هذا الفهم الواعي لحركة النمو الإنساني وقف عاجزا أمام ما آل إليه مصير ابنها ؛ “توماس” قلب توقعاتها وحوّل حياتها إلى أوجاع متلاحقة.
كأي مراهق في مجتمع حداثي يحتفي بالتألق الفردي، كان “توماس” يلاحق حلما، أو ربما مصيرا مغايرا يتميّز به عن أقرانه؛ اعتنق الإسلام وهو في التاسعة عشرة من العمر، اختار لنفسه اسم عبد الحكيم ، أطلق لحيته، تبنى توجّهات متطرفة خسر لأجلها عمله، عثر على وظيفة أخرى عن طريق ” الإخوان ” في المسجد الذي كان يتردد عليه، مما أتاح تجنيده في حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة.
حين بلغ 21 عاما ، أخبر والدته برغبته في الذهاب إلى مصر لدراسة اللغة العربية ، ومن هناك انتقل إلى الصومال وتلقّى تدريبا عسكريا ، وبدا مظهره مضحكا وغريبا بين ” المجاهدين الشباب ” بشعره الأحمر وبشرته البيضاء الملساء ، ولحيته الطويلة الشقراء غير المشذّبه. وحتى تكتمل ” عدة ” الجهاد ، جرى تزويجه من فتاة في الثالثة عشرة من العمر كانت قد فرّت هي الأخرى من أمها في السويد إلى الصومال بعد أن تم تجنيدها لما يسمى ” نكاح الجهاد”.
بين الحين والأخر ، يتحدث مع أمه عبر الهاتف ، يطمئنها ويبدد قلقها ، لكنه يتجنب الحديث معها عن اعتداءاته ” الجهادية ” على القوات الصومالية والكينية ابتغاء لمرضاة الله، ولم تعلم شيئا عن ضلوعه في في تفجير وسيت غيت مول في كينيا الذي أدى إلى مقتل 67 وجرح 175، أو عن عدد الأعناق التي جزّها خلال غارات التنظيم على القوات الكينية ألا بعد مقتله.
وبعد أن أمضت سنوات طويلة في الظّل ، تلعق جراحها بعيدا عن الناس، تتحاشى خلالها أي احتكاك مع وسائل الإعلام خوفا من وصمة العار التي قد تلحق بها في مجتمع مصاب بهوس “الإسلامافوبيا ” ، وحكومة مشهود لها بشراسة أجهزتها الأمنية في ملاحقة أعراض التطرف والإرهاب ، تحولت أنظار المجتمع البريطاني إلى هذه الأم فجأة بعد أن قررت التخلي عن صمتها والخروج من العزلة التي فرضتها على نفسها ، وإطلاع العالم على تفاصيل مأساتها ضمن برنامج وثائقي بث على القناة الرابعة بعنوان ” ابني الجهادي ” باعتبارها والدة أول شاب يلتحق بالتنظيمات الإرهابية في بريطانيا.
البرنامج كشف عن ظاهرة أخذت بالتنامي في المجتمع البريطاني إذ بلغ عدد الفتيان والفتيات الذين غادروا الأراضي البريطانية للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية حوالي الألف مراهق ومراهقة ، قتل منهم ستون حتى تاريخ إعداد البرنامج.
كثر هنّ الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن في حروب إرهابية لا تفضي إلا إلى المزيد من الموت والدمار على هذه الأرض ، غير أنه نادرا ما نلتقي بأم نفضت عنها ثوب الحداد ، خبأت أحزانها في قعر قلبها ، ومدّت يد المساعدة إلى ثكالى محتملات لتجنّبهن مصيرا مشابها؟.
أم ” توماس ” تخوص معركة تنوير ضد الاستقطاب الإرهابي باسم جميع الأمهات الثكالى ، فهل هناك من تحذو حذوها بين أمهاتنا؟.
_________
*روائية وكاتبة من الأردن.