*محمد رضائي راد / ترجمة:مريم حيدري
وُلِد الكاتب والمخرج المسرحي محمد رضائي راد عام 1966، في مدينة رشت، شمال إيران. بدأ نشاطه، في مجال المسرح، منذ الثالثة عشرة من عمره، وحصل على بكالوريوس الأدب الفارسي وماجستير الثقافة واللغات القديمة.
أَلَّفَ رضائي راد 22 مسرحية حتى الآن، وقام بإخراج الكثير منها، هو ومخرجون آخرون. وإلى جانب التأليف والإخراج المسرحي، أَلَّفَ رضائي راد مقالاتٍ وكتباً في مجال التنظير المسرحي والتنظير الأدبي، والأساطير، والفكر السياسي، كما أنه يقوم بتدريس مادّة التأليف المسرحي، وتاريخ الدراما في الجامعة.
وقد كتب سيناريوهات لأفلام سينمائية، منها «الطفل والجندي»، والتي حصل عنها على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان «آسيا باسيفيك».
ومعترضاً على الرقابة في بلده، أسَّس رضائي راد، منذ بضع سنوات، فرقة مسرحية تحت عنوان «خانه»؛أي(البيت)، وبدأ يعرض المسرحيات في أماكن وصالات غيرعامّة.
__________
صوت طفلة: بابا، أين الشارع؟ بابا، الشارع بعيد؟ بابا أنا أحبّ الشارع جدّاً. بابا، ألا يمكن أن نعيش في الشارع بدل البيت؟… بابا….
تتقدَّم فتاة.
الفتاة: هذا أقدم صوت لي، أعتق صوت أتذكّره. لا، أرجوكم، لا تطفئوا هواتفكم المحمولة! لا ضرورة لأن تضعوها على حالة «SILENT». دعوهم يتّصلون بكم، أو اتّصلوا أنتم بمن تشاؤون، وأخبروهم بما تسمعون الآن! دعوهم يتّصلون- أيضاً- بأشخاص آخرين، يرسلون الرسائل القصيرة أو الإيميلات. اتركوا هواتفكم المحمولة شغّالة، وإن كانت هواتفكم تصوِّر، فبإمكانكم أن تصوّروني في أفلام أو صور. سبق أن شاهدتم، مراراً، لحظاتي الآتية. ولكن، لا أحد شاهد هذه اللحظات من قبل، فأرجو أن تسجّلوا هذه اللحظات وترسلوها إلى الجميع، فأنا لم أعد حَيّة، كما أني لست ميِّتة. وإن كنتم تريدون معرفة ما أنا عليه تحديداً، فاعلموا أني شيء بين هذين؛ أنا كائن تويتري؛ أي (سأصبح)، سأبدأ بعد دقائق بالتحليق في السماوات الافتراضية. وغداً، عندما تستيقظون، ستَرَوْن أني احتللت كلّ مكان.
رأيتم؟ هل تذكَّرتموني؟ نعم، أنا تلك الفتاة التي سقطت- فجأةً- في القنوات، وتحوَّلت إلى كائن تويتري. ولكن، هذه اللحظة، لم يشاهد أي أحد هذه اللحظة في حياتي. أنا واقفة هنا، وعلى مسافة عشر خطوات، بعيداً عني، يحدث ذلك الحدث. عشر خطوات قبل أن تصل تلك الشظية الرصاصية، وأشعر بحرارتها في صدري، وأسقط أرضاً. وفي اللحظة التي أنزف فيها دماً من فمي ومن أنفي، ضغط أحدهم على زرّ الكاميرا في هاتفه، ورماني هنا، إلى هذا العالم، الذي هو ليس بعالم الموت، وليس بعالم الحياة، هو عالم وحده. وله قوانينه وقوانين العالمين كليهما. بنقرة واحدة أحيا، وأعود ثانيةً. وأنا عائدة الآن.
واقفة هنا. على بُعد عشر خطوات من مكان الحدث، وأسير الآن ناحــيته. على بعد عشـر خـطوات سينتهي كل شـــيء، أو- ربّما- … سيبدأ. كل حياتي تتلخّص الآن في هذه الخطوات العشر… على بعد عشر خطوات. أسير الآن نحوه. نحو تلك النقطة التي تتصاعد منها، الآن، طاقة ما. ألا ترونها؟ ألا تشعرون بها؟
الخطوة الأولى: زحمة في كل مكان، صخب، ضجيج ودخان كثيف من الغاز المسيِّل للدموع؛ هناك من أشعلوا النار واجتمعوا حولها. لا أعرف لماذا تذكَّرت في تلك اللحظة وفي تلك القيامة القائمة، عرساً لجيراننا في العام الماضي! قال لي أبي آنذاك: «لا تخرجي إلى الشارع يا بنت!» كما أنه يكرّرها هذه الأيّام- أيضاً- ويقول لي: «لا تخرجي إلى الشارع يا بنت!» غير أني خرجت. والآن، أنا هنا. أبي يقول: «لم تكن الأعراس كذلك في زمننا؛ لا مفرقعات ناریة ولا صراخ ولا صخب».. فجّر صبيّ مفرقعة تحت قدمي، لم تكن مفرقعة نارية، بل قنبلة. صرخت، ضحك الصبي وضحكت. وعندما أدار ظهره، قذفت بضع مفرقعات نارية نحوه. كاد يسقط على الأرض. كانت قيامة بالفعل: الشارع مليء بأصوات المفرقعات النارية والصراخ. سمعنا صوت رصاصة، وصرخ أحدهم. صوت الرصاصة… واحدة، اثنتان، ثلاثة. نهض الناس من حول النار، وجالوا بنظراتهم حول المكان، إلى حيث كان من المقرِّر أن أَصِل. ربما مرّ شيء بسرعة البرق، وللحظة واحدة، من أمام أعينهم، فتاة ملطَّخة بالدم، تتلوّى على الأرض في صمت بالغ، ثم يفزعهم صوت الرصاصة ثانيةً. أحدهم تقع عينه فجأة عليّ، لا يعرف أين رآني من قبل، يقول لي قلقاً: «ارجعي يا بنت، الوضع سيّئ»… ثم يهرب، وهو ما زال يفكِّر: «أين التقيت هذه البنت؟» لا يعرف أنه لم يرني بعد. غداً، سيراني غداً، إذ سيمتلئ كلّ مكان بي. وسيتذكّرني فجأةً. لا، هو لم يرني بعد، لكنه سيتذكّرني… سيتذكّرني من قبل.
الخطوة الثانية: خطوت الخطوة الثانية، كان صدري يحترق، وعيناي تدمعان. أعطاني شاب سيجارة، وقال: «أغمضي عينيك، وافتحيهما بسرعة! جيّد لك».
عيناه- أيضاً- كانتا متورِّمتين وحمراوين. كان يشبه الصبيّ الذي فَجَّر مفرقعة تحت قدمي، أو… ربّما.. كان هو! سحبت نَفَساً من السيجارة، ولا أعرف لماذا تذكَّرت، ثانيةً، المرة الأولى التي سرقت فيها سيجارة من أبي، ودخّنتها في البلكون. أن تدخِّن سيجارة يعني أنك كبرت. أبي لا يحبّ أن أكبر؛ يفضّل أن أبقى طفلته الصغيرة. وربّما، لهذا السبب، يقول لي: لا تدخِّني… دخانها كان مرّاً؛ أقصد دخان السيجارة، لكنه بعث دفئاً في صدري. سعلت واغرورقت عيناي بالدموع، سحبت نَفَساً آخر من السيجارة ومسحت دموعي. شاهدت الصبيّ الذي فجّر المفرقعة تحت قدمي، يرشقهم بالأحجار ويصرخ. تَلَفَّظ- أيضاً- بشتيمة بذيئة، لن أقولها الآن. المرأة التي كانت واقفة إلى جنبي، قالت: «لا تذهبي يا بنت! أمامك خطر». ولكن، كان يجب أن أذهب وأخطو الخطوة الثالثة. لكني لم أخطُ الخطوة الثالثة. وقفت ورأيت المرأة تفكِّر، تراءى لي أني شاهدت هذه اللحظة من قبل. وقفت هنا، في هذه القيامة. تقول لي امرأة: لا تذهبي يا بنت، أمامك خطر. ولكني، من خلف ستارة الدمع، كنت أنظر إلى مسافة سبع خطوات إلى الأمام. ثم رميت السيجارة، وخطوت الخطوة الثالثة. وهذه هي اللحظة التي كأني سبق أن رأيتها من قبل.
والآن، أنا أخطو الخطوة الثالثة: انتهت، خطوت الخطوة الثالثة واقتربت من تلك النقطة. كل شيء هناك، في تلك النقطة، حيث كل شيء صامت، ويهبّ هواء بارد يقرص الأطراف. رنّ هاتفي المحمول. إنه أبي، يريد أن يأمر بالعودة السريعة إلى البيت، يريد أن يقول إن الشوارع خطرة. أبي يخاف من الشوارع، يكره الشوارع. لا أعرف ما سبب ذلك. لا يقول لي السبب… اتَّصلَ ثانيةً. الغريب أن كلّ الخطوط مقطوعة، لكن أبي يستطيع الاتّصال بي، في أيّ وقت. كأن هاتفه مليء دوماً بالخطوط! معذرة، هل يمكن لأحدكم أن يتَّصل به على هاتفه المحمول؟ لا يهمّ رقم الهاتف؛ بأيّ رقم تتّصلون هو سيردّ. هو سيسألكم إن كنتم رأيتموني، قولوا له: «هي، الآن، في كل مكان. يمكن الإتيان بها بنقرة واحدة. أنا رأيت نفسي، الآن، في ما وراء العالم. كان أحدهم يتحدّث عني بالإيطالية، وآخر بالسويدية. وأنا فهمت كلّ ما قيل، أنا أتكاثر: في اللحظة التي أكون فيها هنا، أكون في مكان آخر أيضاً، وأقول هذه الأحاديث نفسها، ولكن، بلغة أخرى، ربّما بالروسية أو باليابانية. أنا أفهم كل اللغات الآن. أبي لم يحبّ أن أسجِّل في صفوف تعلُّم اللغة، كان يقول: «كل من يشارك في صفوف اللغة، يغادر البلد». لم يحبّ أن أغادر. كان يقول: «أين ستذهبين؟». ويقول: «وربّما تريدين أن تدخَّني السجائر أيضاً!». لم يعرف أنني أسرق، كلّ ليلة، سيجارة منه، وأدخّنها في البلكون. كاد أن يكشفني البارحة. كنت أطفأت السيجارة لتوّي، وأستمع إلى أصوات الناس القادمة من فوق سطوح البيوت، إذ به يطلّ فجأةً ليطلب مني أن أعود إلى داخل البيت فوراً. طلبتم الرقم؟ ردّ عليكم؟ من المؤكَّد أنه يقول لكم أن تبلغوني أن أطلب سيارة أينما كنت، وأعود فوراً إلى البيت. قولوا له إنني لن أعود. قلت له ذلك ذات يوم، فبدأ بالصراخ. ويمكن أن يصرخ الآن أيضاً. إن أخذ بالصراخ، قولوا له إن الخطّ ينقطع، ثم يتّصل. ثم اقطعوا الاتّصال. أنا فعلت ذلك هناك، وفي تلك اللحظة: «ألو.. ألو.. بابا! صوتك ينقطع؛ لا تغطية هنا. سأتّصل بك حالما أصل إلى مكان آخر». والآن، وصلت إلى هنا. التغطية جيّدة جدّاً هنا، لكن تغطية أبي ضعيفة. قطعت الاتّصال و…
ثم ما إن خطوت الخطوة الرابعة حتى دفعتني فتاة، وتبعثرت كتبها على الأرض. كانت كتباً مدرسية، سقطت ثانيةً إلى زاوية، إلى أيام المدرسة: مراقبة المدرسة تفتِّش حقائبنا، وتخرج من حقيبتي أحمر شفاه. يأخذونني إلى غرفة المعلِّمات، ويطلبون أبي. أبي يرمقني بنظرات غاضبة ويهزّ رأسه. أتعهَّد ألّا أحمل، منذ الآن فصاعداً، مثل هذه الأشياء. وبعد ذلك، ولكي لا يعرف أحد، أخذت أضع الأحمر على شفتيَّ كل ليلة، تحت الغطاء، قبل أن أنام. وكل مرّة كانت تطلّ المراقبة في منامي، وتقرِّر أخذي إلى غرفة المعلِّمات. أتساءل الآن: لماذا كنت أتذكَّر أموراً تافهة في تلك اللحظات؟
هي تبدو لكم تافهة أيضاً.. أليست كذلك؟.. أليست؟ إذاً، قولوا ما معنى هذا؟ لماذا أتذكَّر هذه الأشياء في تلك القيامة؟ يقولون إن الإنسان يتذكَّر كل شيء لحظة موته. لكني لم أكن ميّتة، ولم يتقرَّر، بعدُ، أن أموت. ولست ميّتة الآن. لن أموت أصلاً. سأحضر بكل نقرة، وأعود، وأكرِّر قول هذه الأشياء ثانيةً، كما أفعل الآن، وأقول إن كل خطوة تقذفني إلى زاوية، وأنا أتمسّك بقطعة من القطع التي لا تحبّ أن تُنسى، وتريد أن تحضر فيما بعد، ويتذكَّرها الآخرون.
والآن، أريد أن أخطو الخطوة الخامسة: هذه هي الخطوة الخامسة. هل يمكنكم أن ترسلوا، الآن، رسالة قصيرة إلى صديقي؟ اكتبوا له أنني تذكّرته عندما كنت أخطو الخطوة الخامسة، قولوا له إن الخطوة الخامسة كانت قطعة منه. ما اسمه؟ لا يهمّ إلى أي اسم ترسلون الرسالة، هو سيفتحها. قولوا له إنني أتحدَّث الآن مع «لا أحد». هذه الجملة تبدو لكم عديمة المعنى، لكنه يفهمها. هذه مزحة بيننا. ذات ليلة، كنت أحدِّثه هاتفياً، فدخل أبي فجأةً إلى البلكون، وقال: «مع من تتحدَّثين؟»، ارتبكت وقلت: «أتحدَّث.. مع لا أحد». هذه لا تثير الضحك بالنسبة إليكم، لكننا ضحكنا عليها كثيراً. حتى أبي ضحك في تلك اللحظة. وفي تلك اللحظة، في الخطوة الخامسة، تذكَّرت ذلك، وكدت أضحك. كدت أضحك فعلاً، لكنني لم أضحك. قلت لنفسي: «أنا أتحدَّث مع لا أحد».
الخطوة السادسة. بدءاً من هذه اللحظة، سيسير كلّ شيء بسرعة. سيرتفع صوت الرصاص ثانيةً، سيهرع الناس، لكني لا أهرع. ليس لأني شجاعة، بالعكس، أنا أخاف جدّاً. ولكن، كان يجب أن أصل إلى هناك في الخطوة العاشرة، ولم تبق إلا أربع خطوات. لا طريق للعودة. ثمّة نقطة هناك، كانت تجرّني نحوها بقوّة أسطورية. صوت الرصاص ثانيةً. يقول أحدهم: «لا تخافوا.. هوائية». لكنه يخاف ويهرب. تجمَّدت من الخوف. أعرف هذا الشعور؛ هذا أقرب شعور أعرفه. تعوَّدت على الخوف. خبّأت مجموعة صور الممثِّلين في طيّات كتبي خشيةَ أن يراهم أحد؛ كلّما تحدثت مع صديقي، أفكِّر، طوال الوقت، أن هناك من يستمع إلى حديثنا من مكان ما. وفي الإنترنت، هناك، دائماً، أحد ما يراقب المواقع التي أفتحها، ويقرأ إيميلاتي، وكلّما رقصت «السالسا» متماشية مع نغمات السمّاعة في رأسي، أتخيَّل أن هناك عينين تحدِّّقان بي من مكان مجهول. أنا تعوَّدت هذا الخوف، وربَّما، لهذا السبب، لم أهرب، بل خطوت الخطوة السابعة.
والآن، ها هي الخطوة السابعة: الشاب الذي أعطاني سيجارة، كان يركض في الجهة المقابلة. صرخ في وجهي: «إلى أين تذهبين؟ ارجعي!». سأراه هنا، سيأتي إلى هنا بعد أسبوع. لكنه ليس كائناً تويتريّاً. هو أُصيب بسكتة دماغية، وكُسِرت أربعة من أضلاع صدره، والمكان الذي يُدفَن فيه لا اسم له. هناك رقم على شاهدة قبره، فقط. الرقم هو «د 78 – 671». قال أولئك الذين وضعوا هذا الرقم على قبره بشكل عشوائي، ربما لا يعرفون أن الدال هو الحرف الأول من اسمه، و78 هو سنة ميلاده، و671 هو عدد التوبيخات التي تلقّاها، ليس في السجن فحسب، بل طوال عمره. هو يعرف عددها كلّها، ولا أعرف السبب. سأسأله: «ما اسمك؟» يقول: «وما الفائدة من اسمي؟ أنا لم صبح تويتريّاً، أنا رقم فحسب: «د 78 – 671». سأقول له: «يا د 78 – 671، هل تتذكّرني؟» وسيردّ: «كيف لا أتذكّر؟ كنت فوق رأسك عندما سقطتِ، وصوّرتك بهاتفي، وأنا الذي وضعت الفيلم في التويتر، وفي الفيسبوك»، ثم يذهب، يذهب نحو العدد الكثير من أولئك الذين هم- أيضاً- عبارة عن أرقام فحسب، ولا أحد سيتذكَّرهم.
الخطوة الثامنة: خلا المكان من حولي. أستطيع الآن أن أراهم كلّهم، راكبين على الدرّاجات النارية ومرتدين تلك الملابس. طالما كنت أحبّ ركوب الدرّاجة النارية. يقول أبي: «وهل يعقل أن تركب البنت الدرّاجة؟». اسمحوا لي أن أقول لكم، هنا، شيئاً عن أبي، فربَّما لن تأتي الفرصة ثانيةً؛ لا تسيئوا الظن بأبي. أبي مثل آبائكم أنتم. ليس استعارة من أيّ شيء. هو هو: البابا، ودود، قلِق، مُنقنق، مزعج، وأحياناً مخيف. لا تخطئوا، الآباء ليسوا استعارات من الذين يقفون هناك، ،في الأمام. بل إن أولئك الواقفين هناك هم الذين يريدون أن يكونوا استعارات لآباء طيّبين، لكنهم مخيفون دائماً. أنا أنظر إليهم الآن، وترتعش كلّ مفاصلي من الخوف. من هنا، تلتقي نظرتي بنظرة أحدهم، أعرفه. هو الذي سيحلم منذ الليلة، وإلى الأبد، بفتاة مصروعة على الأرض، وتحدِّق فيه بوجه مضمَّخ بالدم. في اللحظة الأخيرة نظرت إلى كاميرا ذلك الشاب الذي كان واقفاً فوق رأسي مفزوعاً، ويصوّرني. غير أني لم أنظر إلى الكاميرا، كنت أنظر إليه في أحلامه، لا مفرّ له من هذه النظرة. أنا أنظر إليه كلّ ليلة، في أحلامه التي يرفع السلاح فيها، في بعض الأحيان. عندما يصل صوت الرصاصة، يستيقظ فجأة: رأسه ووجهه غارقان في العرق، ويصعب عليه التنفُّس. هو يصاب، في شيخوخته، بسرطان الدم، وكلّما وضعوها تحت جهاز حقن الدم، يتراءى له وجه تلك الفتاة. يعلم الله أني لا أريد إيذاءه. هو الذي لا مفرّ له من تلك النظرة وذلك الوجه المضمَّخ بالدم. يقول لنفسه ألف مرّة، متمنيّاً لو لم يكن هناك: ليتني لم أكن هناك، لكنه كان، وأنا كنت أيضاً. كنا متقابلَيْن. وأنا كنت قد خطوت الخطوة التاسعة.
الخطوة التاسعة: بقيت خطوة واحدة، فقط، وأنا الآن قريبة جدّاً من هناك، حيث أستطيع أن أشعر بحرارة عالية تتصاعد من تلك النقطة، أستطيع سماع هَزّة فجوات الأرض في تلك النقطة، أستطيع أن أرى فتاة واقفة هناك، وتنظر إلى أطرافها بذهول، ولا تعرف ماذا يحدث. لا تستطيع أن تستوعب وجودها في تلك النقطة، وفي تلك اللحظة! لا تعرف لماذا يبدأ هذا الطريق وهذه الخطوات العشر من أقدم صوت في حياتها! ولا بدّ لها من ذلك، انتبهوا جيداً، لا بدّ من أنها تصل إلى هنا، إلى هذه النقطة، وإلى هذه اللحظة. الفتاة لا تستطيع أن تستوعب منطق هذه الأحداث، لكنها تعرف أنها هناك، وهي وحيدة، وتخاف، وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي تستوعبها الآن: الوحدة، والذهول، والخوف. أنا أعرف تلك الفتاة: أعرف أنها ذاهلة، أعرف أنها تخاف، كما أعرف أنها وحيدة. هي واقفة، منذ سنوات طويلة، في تلك النقطة، وتنتظرني. يجب أن أخطو هذه الخطوة الأخيرة. يجب أن أذهب إليها، أمسكها من يدها؛ وأقول لها.. بصوت مرتعش: «لا تخافي يا بنت، أنا معك» ثم تلتفت وتنظر إليّ، وبصوت مرتعش تقول: «لا تخافي يا بنت، أنا معك».
والآن، هذه الخطوة هي الخطوة العاشرة: تلك النقطة.. أنا واقفة، الآن، هناك: الصمت يغطي كل مكان. كل مكان في العالم صامت، وينظر إلي. أنا التي أستطيع أن أسمع الآن صوت هزّات الأرض المخفيّة، وصوت الفجوات التي تنهار، صوت الريح المجنونة التي تلسع الجلد، والصوت الميّت لكل الأموات، صهيل حصان من بعيد، نعيق الغربان، وصوت الطيور المنقرضة، الأنين الخافت للحيتان التي تلقي بنفسها على الشاطئ، صوت تنُّفس كل الناس، صوت الحريق، وصوت، وصوت، وصوت، وصوت… أسمع صفير رصاصة تطير نحوي بسرعة. أقول لأبي: «بابا، يدي خُدِشت، تؤلمني». يقول: «لا تبالي يا بنتي، الألم- أيضاً- جزء من الحياة. ولا أهمّيّة لهذا الألم أصلاً، هناك آلام أكثر». تأتي، الآن، نحوي، تلك الرصاصة، بصفيرها العالي، لتعلِّمني المعنى الأخير للألم.
لم يعد لديّ شيء لأقوله. منذ هذه اللحظة فصاعداً، عندما صوّرني ذلك الشاب، الذي هو عبارة عن «د 78 – 671»، وطيَّرني في سماوات العالم الافتراضي. لكنني في تلك اللحظة، في اللحظة ذاتها، حيث الدم يطفح من حنجرتي، أسمع الصوت الأخير، أقدم صوت في حياتي،صوت الطفلة: بابا، أين الشارع؟ بابا، الشارع بعيد؟ بابا، أنا أحبّ الشارع جدّاً. بابا، ألا يمكن أن نعيش في الشارع بدل البيت؟… بابا…. بابا….
_________
*المصدر: مجلة الدوحة