قزحيا ساسين
في هذا الزمن العربيّ الأحمر بامتياز، قلّما نجد من شعرائنا من يلوذ بالحبّ متّقياً به نار الحروب التي تفترس أحلام الناس الخضراء، وتزرع الخريف في صدر ربيعهم، مغتالة عرس الألوان، كاسرة أواني العطر والمرايا المخصّصة فضّتُها لفرح الحياة.
في جديده الشعريّ «أنساب العاشقين» يرسم الشاعر طراد حمادة شجرة العائلة للحبّ، فاتحاً يدي محبرته لعناق المرأة، معلناً في إهدائه الانتماء إلى جزيرة الأنوثة حيث يرتفع شجر التصوّف، مصرّاً على أنّه صحيح النّسب إلى العشق: «إلى ديبة/ الجوهر الأنثويّ عاشق/ والصوفيّة أهل العشق/ ونحن في أنسابنا المختارة/ من العاشقين».
يمدّ حمادة يده إلى زمن البدايات، فيرى الوجود طالعاً من رحم الأنثى كثيراً، ما يجعله حين يقف تحت سحابة وحدته قابلاً للامتلاء جمالاً: «نساء/ ينحدر الوجود في كثرته/ من ماهيّة الأنثى/ ثم يرتدّ/ إلى وحدته. وفيه من الصفات/ ما تكثر معه خصال الجمال». ما يعني أنّ الليل والنهار على امتداد الزمن سوف يبقيان مضرَّجَين بعطر الأنوثة إلى الأبد: «نساء… ينحدرنَ/ من رأس النهار حتّى/ أخمص الليل». ونساء الشاعر بنات الروح والجسد، فلا يقتصر حضورهنّ على ضفّة واحدة، فهنّ مغسولات بندى الحريّة وكمال الحبّ: «نساء… النساء اللواتي/ عزفن مقام الحجاز/ رقصن على ضفّة الروح/ واسترحن على نهر الجسد». وإذا كان لا بدّ من جحيم لتكتمل السماء، فإنّ المرأة تلد من الرغبة ما يعلو جنّة وما ينخفض ناراً: «النساء الرياح الرغائب/ صانعات الجحيم/ النساء الرياح الرغائب/ صانعات الجنان»…
والمرأة في «أنساب العاشقين»، ملتحمة بالطبيعة، فوقها قمر تجود به غيمة فينزل منها مبتلاًّ بما فيه من ماء: «القمر حجر تدلّى/ من جناح عيمة/ واحتبس المطر»، وعلى مرمى غيمة من شتائها ترفّ أسراب الطيور: «يزغردن حتّى/ تلمّ الطيور الصفير/ وترحل عند/ تخوم الشمال»… وعناصر الطبيعة لا تنفصل في المشهد الشعريّ عن حالة العشق، إنّها هي أيضاً تساهم في صناعة الحبّ، فالغيمة تستلقي على يد نجمة، ذات أخت عاشقة أيضاً يمدّ لها القمر عيناً وهي توقظ الرقص حيث يرفع نخب الجمال: «غيمتان رماديّتان على ساعد نجمة/ ساهرة/ قمر يغمز أختاً لها/ كانت تغنّي/ وتفتح رقصة الحفل»… ويمضي حمادة إلى الصحراء، مطلاًّ على نسائها من نافذة الماضي، فهنّ: «ينخلن عطر الرمال / ويشعلن شمس الضحى/ ويسفحن دم الغزال»… فيستمرّ نساء حمادة متعدّدات، يجترحن رئة راعٍ من نسيج الشوق: «يغزلن من صوفة الشوق/ أنفاس الرعاة»، وفي ظلالهنّ يتفرّغ البدويّ لاختصار مناخ العرب وطقسهم بأنين نايه: «بدويّ عاشق/ يضبط الايقاع في جوف القصب/ قيل عن أنغامه/ أندلسيّ العزف/ شرقيّ الطرب»… وفجأة يفتح الشاعر باب الغربة عن الشرق، وتحضر باريس بكلّ ما فيها من عشق يقوله الليل حاضراً بين رجل وامرأة: «… وسمّار الليل في باريس/ يسرعون الخطى/ وما فات من القطار عودة السكران للنوم…/ هل تراه وأنثاه/ تلوح بشعرها/ المغناج مأخوذاً بموج الشّعر»… ويمرّ الشاعر بنساء دمشق وبيروت وبعلبكّ وصور والجزائر… ويحاول إعطاء كل واحدة منهنّ انتماءً جماليّاً وجغرافيّاً ووجدانيّاً مختلفاً إلاّ أنّ الانتماء إلى الأنوثة الشرقيّة يوحّد كلّ الانتماءات على اختلافها. ويطول بوح الشاعر عن النساء بصيغة الجمع لينتقل إلى دائرة المفرد، فتظهر امرأة وحدها، امرأة تخصّ الرّجل الذي يتوّج أنوثتها بحبره العاشق، كما في «لو كنتِ امرأة أخرى». في هذه القصيدة يعترف الشاعر بفضل الجسد على الحياة، إذ هو قادر على منح العاشق أعماراً لا تنتهي متى كان ممتلئاً عشقاً: «يكتسب الجسد/ من العشق/ طاقة حيوات/ تكفيه حتى ما بعد/ حياة هذا العالم».
فلسفة خاصة
إنّها فلسفة خاصّة للجسد، تعطيه ما يجعله يتقدّم على الرّوح باعتباره أكثر من إناء ذهبيّ لها. وأمام حضور العشق في الطبيعة يلتفت حمادة إلى أنثاه داعياً إياها إلى الاتّعاظ بالنجمة العاشقة، التي يضيء العشق فضّتها: «هل شاهدتِ النجمة/ يجذبها العشق/ وتلحق في الليل المعشوق/ إذن تعالي/ لندخل إلى الحانة/ قبل أن يدهمنا صباح الديك»… وفي حضور امرأة واحدة يتمالك الشاعر قلبه، ويحسن الإنصات إلى ما فيه من أجراس الوجدان فيعرف أنّ المرأة التي أمامه ليست تحتضن في قامتها أنثاه، ليست هي، وليس من الصعب الانسحاب منها: «لا وقت لديّ/ لأبحث عن أجوبة/ لأسئلة حيرى…/ لو كنتِ أنتِ/ أدركتُ النور/ وأدركني النور/ لو كنتِ امرأة أخرى».
أسيرة ياء المتكلّم
وتتكثّف المرأة حضورا إلى أن تصير أسيرة دائرة ياء المتكلّم: «أنا مكانكِ/ يا امرأتي»… فيغدو حمادة أسوار بيتٍ لها، تردّ عنها الريح آناً وتدعوها آناً آخر: «… يحيط بكِ/ من جميع جهاتكِ/ تصحبه الريح / الروح / التي تعبر المكان كما يعبر الزمان»، ويعيد حمادة تأليف الأمس اللبناني عائداً إلى نهر العاصي حيث يتوضَّأ الصيف: «والصيف القائظ/ يتوضّأ بمياه العاصي»، وحيث الإنسان يجتاحه الكسل المغسول بخدر النهار: «والناس كسالى/ من خَدَر نهارات تتفيّأ بالظلّ»، وحيث يرغب الشاعر العاشق في بناء بيت، لأن ماء العاصي بالنسبة إليه يجتاز حضوره المادي ليمسي ماءً يستوطنه الحبّ الموشوم بالذكريات التي قد تكون أيقونة الطفولة: «قلتُ: سأبني لكِ بيتاً/ قبالة نهر العاصي/ وأسبح بماء العشّاق/ صبح مساء».
ويصل حمادة إلى قصيدة «أنساب العاشقين»، ليرى الزيتونة والصنوبرة والصفصافة تتقمّص شجرة العشق، فالزيتون يشهر زيته في ليل الوجود، والصنوبرة تعتمر تاج الحنين، في حين أنّ الصفصافة تتشظّى قُبَلاً على صدر النهر: «زيتونة تضيء/ صنوبرة تصبو/ وصفصافة تقبِّل النهر»… وبعَيْن تعرف نبض الطبيعة وتتقن إيقاع الزمن يرى الشاعر أسراب الفصول ترفّ فوق الغابة: «وأرى الفصول فوق الغابة/ تصحب الشمس والقمر»… ويقف الشاعر في منتصف الطريق كامناً للأيام يسألها إذا كانت تملك زبد معرفته وإذا كان هو قد وصل إلى عمق معرفتها: «أيّتها الأيّام التي تمضي…/ هل خبرتِ ما عرفتُ/ وهل عرفتُ ما خبرتِ…» ويسدل حمادة الستار على صلحٍ لا بد منه بين قلبه وعصفورة الشوق تقليداً لما تؤدّيه الريح وهي مشدودة بخيوط الحنين إلى صدور الجبال: «كأنّي أصالح، بين قلبي/ وعصفورة الشوق قربي/ وأنشر حبّي، مثلما تفعل الريح فوق الجبال».
——
الجريدة