“كمشة صدف…وشويّة بحر”


شيخة حليوي

( ثقافات )



هاتفتني أم لقمان قبل يومين، بعد التحيّة والسؤال عن الّذين تعرفهم والّذين لا تعرفهم،
فاجأتني:” ما هو لونك المفضّل من قماش الحرير؟”
ارتبكتُ، لا أفقه كثيرا في الأقمشة أو ألوانها. 
استدركتْ:” بدّي أعملك جزدان شغل إيدي إلك ولبناتك..أحسن شي أعمله بلون العلم الفلسطينيّ. منيح؟” 
منيح ، أجبتُ.
سألتُها عن لقمان وعن صحّته، ضحكتْ وقالتْ:” بخير، بتعرفي شو بيسألني؟ هم هذول الإسرائيليّة يلي هناك بيكذبوا؟ سألته أي إسرائيليّة؟ قال المرة يلي كانت معنا. قلتله: هاي مش إسرائيليّة هاي عربيّة فلسطينيّة مثلنا. طيّب هي وعدتني تشتريلي أواعي وتوخذني على البحر أسبح. بتكذبش هي؟ صحّ!؟”
ضحكتُ، ذكيّ هذا اللقمان! يستشعر كذب الإسرائيليّ، على الحاجز حينما يمرّ هو وأمّه بينما يضطرّ شقيقه يوسف أن يبقى في الوراء أو أن يمشي في طرق وعرة ويلتقي بهم بعد الحاجز، وعلى باب المستشفى حينما يمرُّ جميع الأطفال مع ذويهم ويبقى هو ووالدته في غرفة التفتيش. 
لقد افترض أنّني ما دمت في الجانب الآخر من الحاجز فلا بدّ أنّ “متلازمة الكذب” أيضا تلازمني كما الذين قابلهم في خارطة الحواجز الّتي حفظها صغيرا.
ما زال صوته في قلبي وهو يهمس غاضبا حزينا:” مخذناش صدف ليوسف!”. لم تعده أّمّه ب”كمشة” صدف في مشوارها القادم، فالمشوار القادم مرهون ب” كمشة” أوراق وتعقيدات وتصاريح أمنيّة لا تنتهي. قالت لي في زيارتها الثانية أنّها لم تزر القدس منذ سبعة عشر عاما، إذ لم تحصل على تصريح، وزوجها ممنوع من العمل داخل الخطّ الأخضر وأنّ لقمان يرى البحر لأوّل مرّة، من بعيد ومن شبّاك السيّارة الّتي تقلّهم.
كان لقائي الأوّل بأم لقمان وثلاثة من أبنائها في مستشفى إيخيلوف في تل أبيب، جاءت لمعالجة ابنها لقمان هناك في قسم أمراض الجهاز الهضمي للأطفال، بعد جهود مضنية من منظّمة حقوق الإنسان وأطبّاء بلا حدود. وجئت أنا إلى نفس القسم بصحبة ابني. جلستْ أم لقمان في ردهة الانتظار مع لقمان ابن الأعوام السبعة ويوسف الّذي يكبره بعامين (قالت لي: بعد ما جبت الصبيان الكبار قلت بلكي الله رزقني ببنت تفرّح قلبي، بس الله بعثلي يوسف وبعده لقمان… برضه مناح…!). 
وكان معها محمّد، اثنان وعشرون عاما،أكبر ابنائها. تجمهر حولهم بعض الإسرائيليين، وهم يتبادلون ضحكات خفيفة وتعليقات جارحة:” لا يُعقل! من أين لهم هذه الشُقرة؟”
لم أقف على الحياد، سألتها بفضول:” فاهمة شو عم بيقولوا؟” …
“لا والله، ولا كلمة!” اعتذرت.
قلت لها:” مستغربين من شقار ولادك وعيونهم الزرق” ابتسامتها لم تفلح في إخفاء ارتباكها، مدّت يدها إلى حقيبتها لتُخرج منها صورا كبيرة ملوّنة لبقية أولادها، كانت محاولة منها لإثبات حقّهم في” الشُّقرة” وأنّها متأصّلة في أسرتها، الشُّقرة..!
كادت عيونهم تخرج من محاجرها. غمزتُها :” دخيلك ضبّي الصور، أحسن! من العين”.
دخلت معها أترجم. ترجمتُ الأسئلة وفحواها العبريّ، ولكنّي لم أحتج ترجمة نبرة “الأسئلة المخابرتيّة”، فهمتها أم لقمان دون واسطة. بعض الأطبّاء في إسرائيل هم ربيبو المخابرات، فيتحوّل كلّ كشف طبّيّ إلى تحقيق أمنيّ.
وفي غرفة الطبيبة لم يتأخّر السؤال:” عذرا، من أين لهم هذه الشُّقرة؟ يبدون كالأوربيين”! فهمت أم لقمان السؤال، فسارعتْ هذه المرّة وأخرجت صورا لبقيّة أولادها تُباهي بهم أمام الطبيبة. قالت إنّ الشُّقرة من زوجها وأهله والعيون الزرقاء من أمّها وأخوالها.
والطيبة والصدق من الأرض. همست لنفسي.
اللقاء الثاني لم يكن وليد الصدفة، بل وليد الاتّفاق. طلبت منّي أم لقمان في حياء كبير أن أوافيها إلى المستشفى كي أترجم ما تقول وما يُقال.
لم يكن لقمان مرحا كما في المرّة الأولى، ترك أخاه يوسف وراءه خلف الحاجز باكيا حزينا، لم يُفلح المهرّج الذي يتجوّل بين الأطفال المرضى في انتزاع أكثر من بسمة خجولة منه، وكذلك القصّة التي قرأت له صفحتين منها لم تحظَ منه سوى بلحظات انتباه.
حينما ودّعتهم على باب المستشفى، حمّلتني أم لقمان كيسا اختلطت فيه روائح الزعتر والميرمية والنعناع وغبار الطريق الوعرة.
مدّت يدها تسلّم عليّ، فجذبها لقمان من طرف ثوبها عاتبا:” مخذناش صدف ليوسف…” وقد استشعر نهاية المشوار. 
ضحكت أمّه بأسى وارتباك.
قلتُ له:” المشوار الجاي بتوخد كمشة صدف وشوية بحر…طيّب؟”
نظر إليّ ولم يُجب.


* كاتبة من فلسطين

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *