يوسف رزوقة*
( ثقافات )
أنا مـجرم !
• يـحمل نفسه ويضعها في .. المترو ويقول لـها: والآن.. احكي !
المكان، على تعدّده، واحد. الأزمنة شتّى والذّاكرة سنجاب..
حدّث شاهين وهو يترك سريره، تـمهيدا للتّوجه نحو محطّة المترو، قال: .. أنـهض من نومي.
أغسل وجهي لأزيح الصّخرة من على جفنيّ وأعدّ لي قهوة وأنا أحاول أن أفهم: ماذا بقي لي لأحسّ بأنّني إنسان؟
وجوابي: لم يبق شيء.. لا إنسان في مدينة الهنا و.. الآن.. انتهى الإنسان وما نـحن إلاّ صورته بالمفعول الرّجعيّ للكلمة..
بـهذا، استهلّ شاهين يومه. تساءل: ما أكتبه، هل سيلاقي، لدى القرّاء، صدى؟ وأضاف كالمتأفّف: وهل عليّ أن أنتظر من أحد شيئا في زمن كهذا، قرّاؤه بـخلاء أو هم في عداد المفقودين؟
لي 14 مـحطّة….
أربعطاش محطّة، لا أكثر ولا أقلّ، لأقول ما أريد… متدحرجا مطلع كلّ يوم، والمترو حـماري الممسوخ في هيئة ثعبان عملاق أخضر.. يتدحرج بي من ضاحية “الانطلاقة”، نقطة انطلاقي إلى ساحة برشلونة، نـهاية الخطّ، بقلب العاصمة.
الفصل صيف.. 10 جويلية … وأنا.. ( مع أنّي حمل، من مواليد 21 مارس… )، لا أبدو وديعا كما الحمل وخاصّة في أعوامي الأخيرة.. شيء ما، تـهشّم داخلي وعصف بالأخضر وباليابس فيّ.. فانقلبت شبه وحش أكشّر عن نيوبي لصورتي في المرآة الصّدئة وللواقفين في طريقي، أيضا.
كلّ يوم، أحـمل نفسي وأضعها في .. المترو. أقول لها: والآن.. احكي. لكنّها تتلكّأ، وهي تغمزني ساخرة، تتلكّأ في مؤانستي، جوف هذا الثّعبان.. ثعبان عملاق، أخضر.. لا يكفّ، طوال نـهاره وطوال السويعات الأولى من ليله، عن الـهرولة.. بل هو يـخبّ خببا وتيريّا له أزيز يصمّ الآذان. هذا ديدنه منذ 1992، تاريخ انبعاثه كخطّ ثعبانيّ، خامس يربط شرايين الضّواحي بسرّة العاصمة.. هو على هذه الحال منذ ذلك التاريخ: يراوح في مسلكه ذهابا وإيابا من نقطة الانطلاق: بيتي إلى .. “الترمينوس”: برشلونة ومن برشلونة إلى بيتي.
أربعطاش محطّة، لا أكثر ولا أقلّ..
لي 14 مـحطّة، لا أكثر ولا أقلّ، لأقول ما أريد.
لي، مع كلّ محطّة وفي كلّ محطّة، شيء يروى. وأنا، اليوم، على أبواب صحراء رمالـها متحرّكة وفي أعقاب خسارات بالجملة، لا أملك إلاّ أيّاما قليلة.. لأقول فيها، عبر 14 محطّة، لا أكثر ولا أقلّ، ما لم أقله طيلة 14 قرنا.
قلت: شيء مقرف أن ألزم نفسي بشيء كهذا ومع ذلك، لن أخسر شيئا إذا فعلت. على الأقلّ، هي فرصة كي أهجر حبيبة لي لم تفهمني جيّدا.. أهجرها إلى حين حتّى إذا عدت، بعد 14 يوما، إليها، أكون في حالة أخرى فأضمّها ضمّا حنونا وبـي من الشّوق ما يـجعلني أتسلّق طولـها الفارع بنطّات سنجابيّة، رشيقة، ثابتة ومموسقة.
… وأنا أحلق ذقني، هالني وجهي. كدت أهوي بـمُوسَى الحِلاَقَةِ على ما تغضّن منه.. كدت أفعل لولا ذلك الصّوت المعدنيّ المتسلّط وقد تناهى إلى سمعي من المطبخ يستحثّني على ترك المكان لـ رناد.
مؤخّرا، شعرت لأوّل مرّة بشيء كالحنظل في حلقي. شيء يـجعل الشّوكولاطة في الفم علقما.. أين لسانك.. هل أكلته القطّة؟ سألتني إحداهنّ ( اسمها تبر، جميلة الجميلات بـجريدة ” الغد”).. سألتني بفضول وقد لاحظت على ملامحي وخلافا للعادة، وأنا أدعوها على فنجان قهوة، لاحظت صمتا لم تعهده فيّ وفائض حزن ذي نيوب.. لم أبح لها بشيء يومها. مع أنّي كنت على وشك أن أفعل. اكتفيت بابتسامة ملجومة على الوجه الباكي. طمأنتها، وأنا أظهر لـها عكس ما أضمره، بأنّي في أحسن حال. لم تصدّقني. رجتني أن أفاتـحها في الأمر وهي تـحاول إنقاذي من نفسي المكفهرّة.. هيّا، لا تكن شحيحا وصارحني: هل تعيش مشكلة وقد عهدناك دائم الابتسامة، لم تفه بـ “أفّ” يوما ولم تشك من شيء اسمه مشكلة؟
مشكلة؟ بف ! .. ليس بالضّبط.. برطمت كالمستخفّ بالجواب لأضيف كالمستملح استدراجها لي: لكن ما يؤرّقني، هذه الأيّام، شيء آخر.. شيء له جذور ضاربة في البَرْزَخ الأخضر من طفولتي.. هـمست في أذنها كالملقي بـحمل من على كتفيه:
– لقد ارتكبت جريـمة في.. طفولتي !
• ماذا؟ سألتني تبر..
– وشقّ عليّ، من يومها، التّكفير عن جريـمتي تلك. كانت جريـمة شنعاء..
• ومن قتلت ؟ غمزتني تبر مازحة.. مقهقهة..
– فعلت ذلك في فورة انفعالي.. انفعال مردّه عَجزي عن أَنْ أَكُونَ ندّا لأخ يكبرني.. لقد سرق منّي يومها أخي هذا صديقة لي، في مثل سنّي.. كان عمري عشرا وكنت بصدد اللعب معها في ظلّ زيتونة وارفة.. لمّا فاجأني أخي فقايضني إيّاها بفراخ قبّرة ودوَّر، من ثـمة، دماغَ صديقتي فطاوعته الملعونة منقادة .. تبعته وهي تتلفّت وراءها.. تبعته إلى كومة تبن مجوّفة.. كي يلعبا “الغمّيضة” لوحدهـما.. وظللت أنا، أضرب كفّا بكفّ، عند عشّ القبّرة.. غلى الدم في عروقي.. “مَدَدتُ يَدي ورَدَدتُها”.. التفتّ فلم أجد حولي في الحَصيدَةِ إلاّ تلك الفراخ مطمئنّة في عشّها ففَصَصْتُ أعناقها المستدقّة وأنا أشعر كأنّي أثأر من أخي و..من صديقتي الصّغيرة.. فعلت ذلك..كأني أَفِصُّ غصنا من شجرة.
عندما عادت صديقتي لوحدها، وجدتني شخصا آخر بـملامح مخيفة.. وقفت بـمنأى عنّي كالحائرة أو كالفاعلة فعلا مشينا.. وقفت وهي تشعر بشيء كالخزي يفرمل خطواتـها.. ظلّت حائرة، تتقدّم نحوي بـخطوة إلى الأمام وبخطوتين إلى الوراء.. وإذ رأتني أهيل التّراب على الفراخ الّتي قتلتها للتّوّ بينما القبّرة الأمّ تـحوم فوقي ملتاعة حزنا على فراخها، رجعت صديقتي التي لم تعد صديقتي، من لحظتها، رجعت على عَقِبِها.. انقلبت تـجري وهي تلتفت وراءها مرعوبة أوكالمرعوبة من احتمال ملاحقتي لها فأبطش بـها وألقّنها درسا لا ينسى..
ضحكت تبر من رهافة حسّي، قالت:
• ياااااه يا شو.. غريب أمرك وعجيب.. لم تنس حـماقات الطفولة بعد كلّ هذه السّنين؟
– من ذلك الوقت، قال شاهين، وضميري يؤنّبني ويكاد يفتك بي. قيل لنا في المدرسة: من سرق بيضة فهو كمن سرق بنكا وأنا أرى، وقياسا على هذا وبـخصوص ما اقترفته يداي، أيّام طفولتي، في فورة انفعال، أنّ من قتل فرخا هو كمن قتل روحا بشريّة. لا فرق عندي فالرّوح روح سواء أكانت هذه الرّوح روح إنسان أو روح نـملة.. لم يفارق ذلك المشهد، مشهد قتلي لفراخ بريئة، مخيّلتي. ظلّ يعذّبني أيّاما بل سنين.. يـحدث أن أنساه لكن إلى حين إذ سرعان ما تعاودني نوبة الإحساس بالذّنب فأنطوي على نفسي أجلدها جلدا وأكاد أشنقها، في السّاحة العامّة، قدّام النّاس لأكون عبرة لغيري.. تلك الحادثة، جعلتني إنسانا آخر.. وطّنت نفسي، منذ ذلك الحين، على مناهضة كلّ شكل من أشكال التّعذيب.. تعذيب مخلوقات الله بأنواعها ولذلك، لم أجد إلاّ الكتابة أداة للرّدع.. ردع نفسي وردع كلّ من تطاله يدي مـمّن تزيّن له نفسه الشّرّيرة بالطبع قتل نفس حرّم قتلها. “أنْ يكون المرءُ كاتباً يعني أن يقفز خارج صفّ القَتَلَة..” هكذا حدّثني كافكا وكأنّه يعنيني يا تبر.. لذلك، اخترت الكتابة نـهجا لي وأسلوب حياة.. أكتب كي أثأر من الأعداء القتلة.. فالقتلة، على بكرة أبيهم، لعلمك، أعداء لي.. لا أصطفّ مع أيّ منهم وإن أخفى يديه خلف ظهره وزيّن قبحه بألف قناع أو مكياج.. لي أنف كرّاف كخيشوم الكلب، “كلب الشوك”، به أكرف، عن قرب كما عن بعد، رائحة الشّيء الطّيب أو المريب..
هل تدرين؟ وأنا في موسكو، قرأت “طفولتي” لماكسيم غوركي.. وجدته يشبهني في حساسيّتي المفرطة.. وهو طفل، كان النّاس يهيلون التراب على جثّة أبيه وكانت أمّه تبكي وكان ماكسيم حزينا هو الآخر لكن.. على ضفدعتين أهيل عليهما التراب أثناء دفن جثمان أبيه …نعم، ظلّ غوركي، يتذكر ذلك المشهد طوال حياته..
• لا تـهوّل الأمر عزيزي شو! لست مـجرما في كلّ الأحوال ولن تكون.. أمّا موقفك المناهض للتّعذيب يا صديقي فهو شيء أكبره فيك وأحُضّك عليه.. أنا نفسي ضحيّة. لسنين، كنت ضحيّته، سامحه اللّه. كان زوجا فظّا أذاقني عذابا بلا وجه حقّ وانتهت زيـجتنا، بعد طول خصام، بالطّلاق.
شاهين ! …
عاودني صوت “المدام” من المطبخ.. صوت معدنيّ، عابر للجدران.. يستحثّني على ترك المكان لصغيرتنا رناد، ذات العشرين. يااااه.. نسيت نفسى.. نسيتها وأنا أحلق ذقني، مستحضرا ما كان منّي في طفولتي وفي آخر لقاء لي مع تبر في مقهى “شعراء العالم” . رنّخت ذقني الحليق بـ “عطر ما بعد الحلاقة” وقلت: لن أعذّب صغيرتي أكثر بتركها تنتظر دورها لقضاء حاجتها الملحّة والدّاهـمة.. وابتسمت مستغربا: كيف فاتني أن أحسّ بتفصيل طارئ كهذا وقلت إنّ ترك صغيرتي تنتظر حقّها في الاختلاء بنفسها في “بيت التجميل” في مثل هذا الصّباح وهي مَزْنوقة هو ضرب من التّعذيب.. كان يـمكن أن “تبول على روحها” بسبب تـجاهلي لها ولـ.. حقّها في لحظة تريـحها من شيء ضاغط..كان عليّ أن أفكّر في مثل هذا الوضع فلا أكوننّ من ..”المجرمين”.
– تفضّلي و.. سامحيني على احتلالي “بيت الرّاحة”، صغيرتي !
• لا عليك بابا.. قالتها مبتسمة وأغلقت خلفها الباب.
والآن، ماذا تنتظر؟ سألت نفسي..
المدام في المطبخ، بصدد إعداد وجبة الغذاء: كسكسيّ بالوراطة، أكلتي المفضّلة. مسكينة هي المدام !.. مقصّر في شأنـها أنا.. أعذّبها بصمتى، بلامبالاتي وبزهدي الكامل في القيام بشأن من شؤون المنزل.. تحمّلتني على علاّتي، كما أنا لتأخذ، بـمجرّد وجودها ربّة بيت، شُؤُونَ البيت.. أخذتـها بالكامل عَلَى عَاتِقِها..
صمتي عنف. أعترف، وأنا على مشارف الخمسين، بأنّني آذَيتها بصمتي وباستقالتي من كلّ شيء ذي صلة بالبيت وبشؤونه.. حتى الأبناء، لم أدر كيف كبروا في غفلة منّي.
لم أنس يوما، وحتّى في أشدّ الأويقات انشغالا بـ”لزوم ما لا يلزم”، أنّني كاتب. حياتي هههه كلّها، تقريبا، أهدرتـها في .. الخربشة وفي عصر طاسة مخيّ حرثا في مادّة شخماء هي رأسمالي الوحيد في هذه الحياة..ماذا؟ هل قلت “خربشة”؟.. من باب التّواضع، لا غير، قلتها.. ذلك أنّ الكتابة، بالنّسبة إليّ، ومنذ البداية، هي مسلكي الأهمّ، لا محيد عنه ولا بديل.. وكما لدى كامو، أنا الآخر أرى أنّ.. “هناك شمسا لا تغيب في صميم ما أكتب”..
الثّامنة وثلاثون دقيقة.
هَوَّى شاهين غرفته. رتّب سريره. طبَّق الغِطاء. أفرغ المَنْفَضَة المليئة بالجثث المشبعة بالنّيكوتين في سلّة المهملات.. واتّجه بـخطى متثاقلة إلى المطبخ..
انسحبت المدام تاركة له “غاز المدينة”.. لتستغلّ الوقت المستقطع في نفض البُسُط وأَثَاث الْمَنْزِلِ ..
أعدّ شاهين قهوة هي الثّانية بعد قهوته الأولى الّتي اندلقت بلمسة طائشة من يده وهو يـحلق ذقنه.. عاد إلى غرفته وعادت المدام إلى المطبخ..
فتح شاهين لابتوبه. فتحه لدقائق معدودات.. أشعل سيجارته الأولى والفنجان إلى فمه. عبّة نيكوتين مشفوعة برشفة قهوة. فتح فايسبوكه..
في الإنبوكس، رسالة من عاتكة استهلّتها بـ ” صباح الخير شو.. غريب ما قرأته لك هنا”.. قالت ذلك، في إشارة منها إلى شيء سرديّ له صلة بـ “جريـمته النّكراء”.. نشره على جداره الفايسبوكيّ البارحة.. لتضيف: أنا نفسي ارتكبت جريـمة شبيهة بـجريـمتك هذه، في صغري.. جريـمة استعدت حيثيّاتـها، مؤخّرا، في قصة قصيرة لي مهرتها بـ “قطاف” .. جريـمة حزّ في نفسي، وإلى اليوم، اقترافها..
قصّت عليه عاتكة قصّتها، قالت: “.. كنت منكفئة على نفسي، في ركن من أركان المخزن الكائن بالفناء الخلفيّ لبيتنا الكبير.. بيت يطلّ على البحر لمّا فاجأني ابن عمّة لي يكبرني بسنة.. بادرني بالصّراخ ليَفزَع من بالبيت ومن بالجوار، يسبقهم الفضول، تناسلت نظرات الاشمئزاز ترشقني بلا رحمة.. طالت محاكمتي.. لا أذكر من كان هناك بالضبط.. لم يسمعني أحد منهم.. وعندما تكلّمت، للدّفاع عن نفسي، لم يصدّقني أحد.
نسيت إن كنت حلفت حينها بأغلظ الإيـمان أم لا وهل كنت، أصلا، أحسن الكلام.. فقط كان وجهي منكّسا في ظلمة المخزن يـختزل الحكاية..
لقد ضبطت متلبّسة..كل الأدلّة ضدّي.. لا أمل في براءتي.. لا أعرف سبب دهشتي حينها فقد تعدّدت الأسباب.
كيف أقتل كائنات ضعيفة بيديّ هاتين؟ إن لم أكن أنا من فعلتها فمن يكون إذن ولا أحد غيري في ظلمة المشهد ؟
طفرت دموعي وتكاثرت لاءاتي.. كان ابن عمّتي يبكي.. قال إنّي مجرمة يسكنني الشّر منذ الصّغر وأن الله سيعلقني من رموشي ثم يـحرقني.. لم أخف من الله فأنا كنت أقرب إلى اليقين بنظافة يدي من كلّ شكّ..
لست أنا من قتلها.. كنت في عمر خمس سنوات.. لا أذكر تحديدا.. طفلة لم يـمنحها والداها الاهتمام اللاّزم..كان اهتمامهما بي شحيحا بينما النصيب الأوفر من الاهتمام كان للإخوة الأصغر منّي .
كنت ممسكة بإحداها حين دخل عليّ ابن عمّتي هذا.. لم أجد إلاّ القطّة فاتّهمتها عوضا عنّي.. كم كان جميلا زغبها الأصفر النّاعم الموزّع على جلدها الورديّ.. كنت أحاول إسعافها رافعة رقبتها بأصابعي لمّا فوجئت بـهم أمامي وأنا أقوم بأولى عمليّات الإسعاف في حياتي.. لم أجد ما أقول.. لقد كُيّفت الواقعة عكس اشتهائي.. القطة؟ كانت بريئة..
منذ ذلك اليوم، كرهني ابن عمّتي.. كان متعلقا بـها كثيرا.. كم قتلت؟ لا أذكر عددها.. المهمّ، كانت كلّها ميتة وقد انتشرت حولي وأنا مقرفصة على البلاط البارد في حال من الشّرود التّامّ.. ابن عمتي، إلى اليوم، يكرهني، أما أنا فيعذّبني شكّ في براءتي من دم الحمائم”.
)(
وهو يفرغ من قراءة ما كتبته عاتكة، حيّاها شاهين، قال: جـميل هذا التخاطر فعلا.. هو شبيه بـما حدث لي وبـما أقدمت عليه في طفولتي وقد ارتأيت أن أوظف ما حكيته لي في رواية تتّخذ من مناهضة التعذيب تيمة لـها.. سأطعّمها بقصّتك هذه دون إغفال الإشارة إليك.. سأسمّيك عاتكة .. أوكي؟ شكرا لك على موافاتي بـها مع وارف تحيتي.. شو.
أغلق شاهين النافذة، اللاّبتوب وإمكانيّة أن يسأل صباحا من طرف المدام.. لكنّ رناد كانت له بالمرصاد.. حذّرته مازحة:
• بابا.. لا تنس هديّتي..
طمأنـها بإيـماءة من رأسه.
لقد اقتلعت الباك ( باكالوريا علوم تـجريبيّة).. اقتلعتها قبل أيّام من فكيّ تـمساح ورفعت رأسه في الحومة، لدى أهله وأمام أصدقائه عاليا..
شاهين، وحتّى لا ينسى، وعدها بأن يهديها شيئا ذا قيمة.. ماذا يهديها؟ هي تـحبّ الرّسم والموسيقى. سألـها وهو يتحفّز للخروج:
– رنادتي، هل من شيء محدّد في بالك تشيرين عليّ به؟
• افتح لي حسابا بنكيّا أو دفتر ادّخار على الأقل عزيزي أنطوني هوبكنز .. ( هكذا يـحلو لها مناداته لشبهه بهذا الممثل البريطانيّ – الأمريكيّ، بطل فيلم “صمت الحملان” )..
– طمّاعة ! مازحها شاهين وهو ينقر بسبّابته أرنبة أنفها ليغادر المنزل في اتّجاه المترو..
– يااااه.. الإحساس ذاته لم يزايلني لحظة.. أنا مجرم! ..
إحساس بالخزي لازم شاهين وقضّ مضجعه.. لازمه سنين.. زمن المراهقة وما بعد زمن المراهقة بسنوات. إحساس بالذّنب كأنّه الحنظل لم يكن ليزايله إلاّ ليعود إليه من كوّة في نفسه الندْمَى. كيف يكفّر عن جريـمته البشعة؟.
* أديب من تونس