«روائي» باموك … إما ساذج وإما حساس


*مايا الحاج


«الروايات حياة ثانية». بهذا الحُكم اختار أورهان باموك أن يفتتح كتابه «الروائي الساذج والروائي الحساس» (دار الجمل، ترجمة ميادة خليل). اختار أن يستهلّ عمله البحثي بعبارة جازمة، قاطعة، لا شكّ فيها. الرواية إذاً تمنح القارئ مساحة لاختبار حياة أخرى، تماماً كما الأحلام التي تحدّث عنها الشاعر الفرنسي جيرار دو نيرفال. إنها «تكشف لنا الألوان والتعقيدات في حياتنا، وهي مليئة بالناس، الوجوه، والأشياء التي نشعر بأننا نعرفها من قبل»، يقول باموك في بداية الفصل الأول «كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية؟».
تسوقنا قراءة الرواية في كثير من الأحيان نحو عالم تذوب فيه الفواصل بين الواقع والخيال. أمّا الخلط بينهما فيصفه الكاتب بأنه فعل «ساذج»، من غير أن تحمل هذه الصفة المفهوم السلبي المرتبط بها. فعل السذاجة هنا ليس مرفوضاً، بل إنّ باموك يُعبّر عن حقيقة انزعاج القارئ -أيِّ قارئ- من رواية تفشل في تعزيز تصوّرنا بأنها حياة حقيقية بالفعل. فالقارئ يفترض أنّ الروايات التي يقرأها حقيقية، غير أنه يُدرك في مكان ما في عقله أنّ افتراضه خاطئ. هذه المفارقة تنبع من طبيعة الرواية. كأنّ القارئ يتوهّم ويستلّذ بهذا الوهم. وفي هذا السياق يقول باموك إنّ «الإبداع الروائي يعتمد قدرتنا على تصديق حالات متناقضة في وقت واحد». (ص 12)
يضم هذا الكتاب محاضرات «تشارلز إليوت نورتون» التي قدمها باموك في «جامعة هارفرد» عام 2009، معتمداً التمييز الذي وضعه شيلر بين الشاعر الساذج والحساس في مقالة شهيرة وصفها توماس مان بأنها «أجمل مقال كُتب في اللغة الألمانية»، عنوانها: «عن الشعر الساذج والحساس» (1795-1796). فأراد باموك عبر هذه المحاضرات أن يصل إلى مفهوم أعمق لمقال شيلر، وأحياناً إلى توضيح أفكاره حول الرواية عن طريق تقسيم شيلر.
أثناء تحضيره هذا البحث الطويل، فكّر صاحب «اسمي أحمر» بالمشاعر المختلفة التي تنتابه أثناء كتابة الرواية، وما إذا كان كاتباً ساذجاً أم حساساً. رجع إلى مقالة شيلر التي استخدم فيها صفة «الساذج» للتعبير عن شعراء عفويين، يكتبون بسلاسة من دون عقلنة فعل الكتابة، كأن شعرهم آتٍ من الكون الذي هم جزء منه. بينما اختار «الحساس» صفةً أطلقها على الشعراء المتأملين الذين يقلقون في شأن قصائدهم ويفكرون في طرقها وأساليب نظمها. وفق هذا، رأى باموك أنّ نظرية شيلر تستأهل أن تُطبّق على الروائيين، بل على البشر الذين ينقسمون إلى صنفين مختلفين أيضاً.
يسهب باموك في حديثه عن مقال شيلر باعتباره المؤلّف الملهم لهذا الكتاب. ويشرح ما توصل إليه المؤرخون الألمان من أن غوته المقصود بـ «الشاعر الساذج»، بينما يقصد نفسه بـ «الحساس». يكتب باموك في هذا الإطار: «وهو هنا لا يحسد غوته على موهبته الشعرية فحسب، وإنما أيضاً على «نقائه، عفويته، ثقته بنفسه، وعلى الأسلوب الذي يأتيه من دون جهد بأفكار رائعة وعظيمة. يحسده على أن يكون نفسه، على بساطته، تواضعه وعبقريته، وعلى عدم إدراكه لكل ذلك، مثل فهم الأطفال تماماً». بينما كان شيلر «أكثر عقلانية وأكثر تعقيداً، وأكثر وعياً بأدواته الأدبية، ومليئاً بالأسئلة والشكوك نحوها».
يُسقط باموك نظرية شيلر على القراء أيضاً ليقول إنّ القارئ «الساذج» هو من لا يشغل نفسه بالجوانب الفنية في كتابة الرواية وقراءتها، بل يُصدّق أنّ الرواية حقيقة وأنّ حكاية البطل هي حكاية الكاتب نفسها، مع بعض التعديلات أو الإضافات أحياناً. بينما على العكس من ذلك، القارئ الحساس هو العاطفي والمتأمل، يولي اهتماماً كبيراً للأساليب الروائية والطريقة التي يعمل بها عقله أثناء فعل القراءة.
يُقدّم أيضاً أمثلة كثيرة من حياته روائياً وقارئاً قبل أن يُطلق على نفسه حكماً نهائياً. يصرّح باموك بأنه بعدما ألقى هذه المحاضرات ظل يحاصره سؤال واحد: «سيّد باموك، هل أنّ كلّ هذا حدث معك بالفعل؟ سيّد باموك، هل أنت كمال؟». والمقصود هنا بطل روايته «متحف البراءة» (2008)، الرجل العاشق والموسوس في الحبّ. بيد أن من يقرأ هذه الرواية، يُدرك جهداً جلياً بذله باموك في وصف الشخصية، حتى بدت بملامحها وقصتها وتفاصيلها واقعية جداً، ما شوّش ذهن القارئ، فاختلطت سيرة كمال لديه بسيرة أورهان. أمّا جوابه، فاختصره بأن الحالة المثالية هي التي يكون فيها الروائي ساذجاً وحساساً في الوقت عينه». وفي الفصل الثالث «الشخصية الأدبية، الحبكة والزمن» يؤكد فكرته هذه بقوله: «كلما نجح الروائي في أن يكون ساذجاً وحساساً معاً، كتب أفضل» (ص 63). أما الإبداع الروائي فيستمد قوته، وفق باموك، من عدم وجود اتفاق مثالي بين الكاتب والقارئ حول فهم الرواية.
لا يكتفي باموك في محاضراته بالإجابة على سؤال الروائي الساذج والحساس، إنما يقدم أجوبة كثيرة على أسئلة إشكالية ومهمة مثل: «ماذا يجري في عقلنا عندما نقرأ الروايات؟»، «كيف نحوّل الكلمات إلى صور ذهنية؟»، «لماذا نقرأ الروايات؟»، «بماذا يفكر الروائي أثناء فعل الكتابة؟»، «ماذا يعتقد في شأن القارئ؟ كيف يخطط لروايته؟»، «كيف يختار محور الرواية، موضوع الرواية، فكرة الرواية؟ وعلى أي أساس؟»، «ما العلاقة بين المتحف والرواية؟»، «ما العلاقة بين اللوحة والرواية؟»، «أيّ أجزاء الرواية حقيقي وأيّها خيالي؟».
هو يلعب تارة دور الروائي فيستند إلى أعماله وتجاربه وأجزاء من حياته، يستعرض مثلاً الأسباب التي وجهته نحو الكتابة، بعدما كان يحلم بأن يكون رساماً، هو الذي ظلّ يرسم من السابعة حتى الثانية والعشرين من عمره. «سبب آخر يجعلني أعشق حرفة كتابة الروايات، هو أنها تدفعني إلى تجاوز وجهة نظري الشخصية لكي أكون شخصاً آخر» (ص 65). وتارة أخرى يلعب دور القارئ ليستشهد بأمهات الأدب العالمي، من «آنا كارينينا» إلى «الإخوة كارامازوف» فـ «مدام بوفاري» و «البحث عن الزمن المفقود». لا يُقدّم باموك إذاً تجربته الشخصية مع الراوية، لكنه يستعرض أمثلة واقعية من حياته الشخصية كروائي، إضافة إلى ما قرأه وعرفه من روايات الآخرين.
بعد قراءة هذا الكتاب، لا بدّ أن نواجه أنفسنا بالسؤال عينه: «إلى من أنتمي؟ القارئ الساذج أم الحساس؟».
_______
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *