حسين البرغوثي .. الراقص مع «الوحش»


* عزمي عبد الوهاب


هل صادفت رجلاً يرقص فرحاً وطرباً، بعد جولة من الفحوص والتحاليل، ليخبره الطبيب في النهاية بأنه مريض بالسرطان؟ فعلها الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي (1954-2004) «مؤجلا إدراك معنى السرطان إلى أجل لا يرغب في تسميته أو تحديده» فعلها حسين البرغوثي، وكان محقاً على نحو ما، فالسرطان يحمل شارة نجاة لابنه وزوجته، وبات عليه أن يخوض وحده معركته ضد وحش قاتل، لا أن يخوض معركة على ثلاث جبهات.
رقص حسين البرغوثي في شوارع رام الله وقال: «سأكون بين اللوز» وجعل أصدقاؤه الجملة عنواناً لسيرته الذاتية، التي صدرت بعد رحيله، إنها سيرة الوجع الدائم من الطفولة، حتى النفس الأخير، وفي حياة قصيرة، قصر الحلم ذاته، وكأنه عاد ليموت بين اللوز، هو الذي يتقن البدايات، إذ يقول: «بعد ثلاثين عاماً أعود إلى السكن في ريف رام الله، إلى هذا الجمال الذي تمت خيانته، نفيت نفسي طوعاً في بدايتي فيه، واخترت المنفى، وأنا ممن يتقنون البدايات وليس النهايات».
درس وتفوق واغترب وعاد بشهادة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة سياتل الأمريكية، وأتقن الإنجليزية والمجرية والفرنسية، ووقف أستاذاً بين طلبة في جامعة بيرزيت، وكما يقول الشاعر أحمد دحبور في شهادته عنه: «فاجأ الأساتذة والتلاميذ معاً بالأنموذج الإنساني الذي بناه من نفسه بنفسه تلقائياً، فهو العفوي المبادر، الصامت، المتدفق في الحديث، الفوضوي مشية وملابس، المنظم فكراً وسلوكاً، فقد نجح على حد تعبير الطيب صالح في الإمساك بخيوط الفوضى، وكان لا يقر له قرار على جنس محدد في الكتابة، فكتب «سقوط الجدار السابع»، و«أزمة الشعر المحلي» في النقد، وكتب في الرواية الضفة الثالثة لنهر الأردن، وفي الشعر أربع مجموعات شعرية: «الرؤيا ليلى وتوبة توجد ألفاظ أوحش من هذه مرايا سائلة».
كيف كانت بداية الرحلة مع الوجع؟ يقول حسين البرغوثي: «قبل الانتفاضة الحالية بمدة، شعرت برائحة موت في الجو، ومات وجهان لا أعتقد أن أحداً سمع عن موت الوجوه بعد، وجهي مات، قلت لبترا «زوجتي» إن علينا أنا وهي وآثر «ابنه» أن نهاجر إلى كندا، ربما قبل أن تنتشر رائحة الموت أكثر، الفرار! ولكن فلسطين قفص، وبدأت أعرق، في الليل، أستيقظ على ضوء مصباح أحمر خافت، وأنا أنضح عرقاً، حتى إن قميصي قابل لأن أعصره، وكأنه كان منقوعاً في حوض ماء، وجع غريب في البطن والظهر، وإنهاك وفقدان وزن، وشهية، وحكة تحت الجلد، وانهرت، لقد مرض الجبل بالسرطان».
تحايل البرغوثي على الوجع الرهيب بالعودة إلى جبال الطفولة إلى هذا الجمال، الذي خانه من قبل، ورجع رجعة غير محكمة، على حد تعبيره، هذه العودة جعلته يكتشف أنه ابن الحياة لا الموت، كل شيء حوله كان يقول له: «قاوم» كان الجبل يبلغه رسالته إلى زوجته بترا، حتى إنه شعر به يهتف به: «قل لها مهما حدث، إن زرتني، سأكون بين اللوز، ستكون شمسي، ويكون نوار يتطاير في الهواء وتكون جنائن، ويكون نحل وطريق نحل، وحتى يأتي ذلك الوقت، قادم».
قال له الطبيب المتخصص في أمراض الدم: «قد تكون مصاباً بالإيدز»، في تلك اللحظة تخيل البرغوثي أنه من الأفضل أن يذهب إلى البحر، وينتحر غرقاً، لكنه رأى أن البحر يعيد الجثث إلى الشاطئ، وسيعثرون عليه، وحسب تعبيره: «ليس من حقي أن أكون جباناً، ولا أن أهرب هكذا» كان يفكر في زوجته وطفله.
أصبح الموت هو كل الحوار بين الزوجين، هو يقول: «إن كنت مصاباً بالإيدز فأنت أيضاً مصابة» وهي تقول: «ليس مهماً المهم أن نموت معاً»، لكن المشكلة الكبرى في أن يكون الطفل مصاباً أيضاً، هي رفضت ذلك بهيستيريا، وأصبح مصير ثلاثتهم معلقاً بين كلمتين «سلباً أم إيجاباً؟».
وفي مستشفى رام الله جاءت ممرضة بوجه كهنوتي، لتسحب عينة الدم للفحص، لم يكن البرغوثي يريد أن يسمع من تلك الممرضة بالذات حكماً بالإعدام على ثلاثتهم، فوجهها – كما رآه – من علامات القيامة، ومر أسبوع يشبهه البرغوثي ب«فصل من الجحيم»، إلى أن ذهب لمعرفة نتيجة اختبار الإيدز، وفي الأوراق لمح كلمة «نيجاتيف» أي أنه ليس مصاباً، وأخذ يكرر على الممرضة: «نيجاتيف يعني لست مصاباً».
يقول: «كنت أتخيل أنني سأرقص إن لم أكن مصاباً»، أو أبكي، لكن لا هذا ولا ذاك ما حدث، وجدتني أميل برأسي ذات اليمين وذات الشمال، وأركض في ممر المستشفى، وأهتف «أوه أوه أوه حسين، لم يعد هو هو، لقد رجع طفلاً، إلى أن أوقفه طبيب الدم في الممر، وقال له: «تقرير المختبر وصل، عندك ليمفوما سرطان في الغدد الليمفاوية».
ويقول: «خرجت من المستشفى شارداً، لا بكاء ولا فرح، وفجأة وضعت رأسي على عرق صنوبرة، في الشارع، وانفجرت في بكاء مر، وقديم، كان جسمي متصلبا إلى حد البلاهة، وذاب في نوبات من البكاء، لم أبك ولا مرة في الجحيم نفسها، لكن عندما خرجت منها بكيت، جاء دوري الآن لكي أشعر لا ببيترا ولا بآثر، بل بنفسي، ونجاتهما.
وبدأت رحلة العلاج الكيماوي، ليشعر معها البرغوثي بأنه إنسان زائد على الحاجة، حين يقول: «لم يعد لي مكان في كل هذه الانتفاضة، إلا التردد بشكل ممل أيضاً على مستشفى رام الله، هناك متسع لي بين الولادات الجديدة في الطابق العلوي، وبين ثلاجة الموتى تحت، وجرحى وشهداء، وأنا تائه أسأل عن دكتور أمراض الدم، فترد ممرضة متوترة: «نحن في حالة طوارئ، ألا ترى؟ فأدركت أنني شخص زائد على الحاجة، مريض متطفل، يمشي نحو مصيره وحده»، ومع هجمات الورم الضارية كان صدر البرغوثي يضيق بما فيه، فلم يعد قادراً على التنفس، لقد قضى 17 عاماً في مستشفى رام الله، في غرفة تفتح على دهليز مضاء بالنيون، ولم يدخله أي ضوء طبيعي منذ عقود، ولن يدخله، كما كان يرى البرغوثي، وفي آخر الليل عندما تنام الممرضات، ويحل الصمت، يتكئ على السرير، جسمه كله منتهك، مخرم من الإبر، وبقع سود وخضر في ذراعيه، وفي دمه لترات أدوية تكفي ليعرف ما معنى «مطر الكيمياء» على حد تعبيره.
وخرج من المستشفى، ليس لأنه نجا، بل لكي يسافر إلى مركز الأمل للأورام السرطانية في العاصمة الأردنية عمان، كانت الفوضى كما يوضح في قلبه وفي خارجه، لكن لا توجد فوضى، بل نظام آخر الأشياء، وفي «مدينة من غبار» كان الانتظار مرعباً، وجسمه كان متصلباً، قلت حركته، لا بكاء ولا فرح، مشروع تمثال ليس إلا، هنا يمكن أن يتذكر أول جلسة علاج كيماوي في مستشفى بيت جالا، لم يكن يستطيع المشي في «الكوريدور» إلا ولديه شعور بأن وصول آخره مستحيل، وكأن المسافة تكبر كثيراً حين نعجز عن المشي.. يصل حسين البرغوثي إلى أن السرطان رسام يجعل التفاصيل الصغيرة مرئية، والحياة نفسها فن فبعد شهر من الفحوص، قال له الطبيب: «أنت معافى»، فضحك وقال في نفسه «لم يرجع السرطان لأنني الآن لست أنا، إنني أرجع طفلاً، والسرطان أصاب شخصاً يائساً، طاعناً في السن، في داخلي، شخص لا وجه شبه بيني وبينه».
خرج البرغوثي من المستشفى بورم مساحته 22 سم في الرئة اليسرى، يمكن معالجته بالكورتيزون، كما قال الطبيب، كان منهكاً من الورم الذي يزيد، مجرد المشي عشر خطوات تنهكه، وفي النهاية انتصر الوحش على الشاعر الذي كان يخطط من زمن بعيد لأن يعود إلى جبال طفولته، ليقف متأملاً بالبدايات والنهايات، صار بإمكانه أن يتذكر ما قالته له أمه: «إن لم تستطع كتمان سر ما، احفر حفرة في الأرض وقله لها، ثم أهل عليه التراب، ادفنه فيها، وسوف يعود إليك حين يأتي الربيع، كل نرجسة أو عشبة تبزغ من تربة تلك الحفرة سترجع السر إلى سطح الأرض، ولن يقدر على سماعه إلا أنت»، عاد حسين البرغوثي فعلاً إلى الأرض إلى السر، لكنه سيكون دائماً بين اللوز.
_______
*المصدر: الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *