ثنائية إما … أو!


* خيري منصور

غالبا ما يقترن هذان الحرفان بالوعيد، بحيث على المخاطب ان يختار بين موقفين متناقضين لا ظلال لهما، فالبعد الثالث محذوف من سياق ثقافي تأسس على الثنائيات، وهذا السّياق المضاد للجدلية له جذر زاوج بين الفلسفة والميثولوجيا.

خصوصا عندما تنسب هذه الثنائية الى مانو الفارسي والذي لا يبتعد كثيرا عن المفهوم الزرادشتي الذي يرى الانسان محكوما بالمسافة بين الشرّ المطلق والخير المحض، فهو إما ملاك او شيطان وفي الحالتين ينزع عنه الشرط الآدمي الأرضي، الذي يضع الانسان في موقف اشكالي، حيث الصراع دائم بين الغريزة وخلاياها الزواحفية وبين الوعي وتجليات هذه الثنائية تتفشى في نسيج الحياة برمّته، لأن الأسود والأبيض ليس تعبيرا عن تناقض لوني، لأن الطيف له جدليته الفيزيائية كقوس قزح وثمة الوان تولد من بعضها كما هو الحال في الاسود الذي ينبثق من اقاصي الاخضر، ولهذا كان العراق يسمى ذات ربيع تاريخي ارض السّواد لفرط اخضراره، لكن تصنيف العلاقات والصفات الى قبيح وجميل وصديق وعدو وحب وكراهية ليست له فيزياء او منطق يجعل المسافة ثابتة بين هذه النقائض، ومن المفارقات ان هناك كتابا فلسفيا بعنوان ‘إما … أو’ للفيلسوف الوجودي سيرين كيركغورد، لكن دلالته مغايرة لما نعنيه بالثنائية المانوية، لأن مؤلفه وجودي مسيحي له هواجسه وشكوكه رغم انتهائه الى القبول بفكرة الخلاص الديني، ورغم انه قال ذات يوم ان الناس عندما يضعون اصابعهم في اي شيء يشعرون به عن طريق اللمس ويشمون رائحته لكنه عندما يضع اصبعه في الوجود لا يلامس شيئا ولا يشم شيئا غير الفراغ والعدم.
وما يعنينا من ثنائية أما .. او ليس البعد الفلسفي التجريدي، ولا حتى ذلك المفهوم السياسي الذي يقسم الشجون الكونية بين الله والقيصر، انه التجليات القابلة للرصد في حياتنا اليومية، بل في صلب ثقافتنا، فالثنائية كانت ستستمر في التاريخ لولا ثورات المنطق وانقلابات الأفكار التي اكتشفت سحر الجدل وسرّه معا، والمقابل للجدلي هو الغنائي الأفقي الذي ينمو دائريا وحول نفسه، لهذا كان اهم منجزات المعرفة الانسانية هو ما أفرزته الجدليات وما كان بعدا ثالثا يحرر الاضداد من عزلتها الأبدية، والجدلية قبل ان تكون من اكتشاف الفلسفة كانت من صلب الفيزياء والطبيعة وابسط مثال هو الماء .. هذا الوليد الناتج عن ثنائية تتشكل من عنصرين هما الاكسجين والهيدروجين، ولا يمكن العزل بينهما مجددا الا في الغليان، ومصطلح الغليان ليس فقط حكرا على الماء والنار والمناخ، فحين اراد عالم الجمال ‘ برتلمي ‘ ان يعبر عن التجربة الشعرية قال انها تسخين للرمل بحيث يتحول الى زجاج، او ان الماس في اصله كان فحما تقلّب ملايين السنين في باطن الأرض حتى تجوهر وتصلّب وتلألأ، وهذا ايضا ما عبر عنه ناقد أدبي عندما تحدث عن انماط الغموض في الشعر هو وليام امبسون في كتابه عن الغموض والابهام والفرق الشاسع بينهما، فالابهام أقرب الى الفحم المنغلق على ذاته، بينما الغموض هو الماس الذي يتلألأ من اعماقه وقد يكون التصنيف التقليدي للنصوص على انها جيدة او رديئة من ضحايا الثنائية الخاملة المحرومة من الجدل، لهذا كان المنجز البنيوي في النقد كبيرا عندما استبعد احكام القيمة والمفاضلة وانصرف الى التحليل والكشف .
* * * * * * * * 
حتى الميثولوجيا حاولت اجتراح بعد ثالث او ظلال تحررها من الثنائيات، سواء تجسد ذلك في مفهوم الأعراف الاسلامي او اللمبو كما في كوميديا دانتي، فثمة هامش بين الجنة والنار، هذا اضافة الى مفهومي التوبة والاعتراف فهما تعبير عن كسر المطلق للخطيئة والصواب لكن ما تورطت به ثقافتنا خلال قرون وليس عقودا فقط هو الثنائية ذات الدلالة النذيرية والتي يرشح منها الوعيد، فإما ان تكون هنا او هناك، واما ان تكون حديثا او كلاسيكيا، وثوريا او رجعيا، وكريما او بخيلا، وحسن السيرة او سيىء الذكر، وقد كرّس هذا التصنيف الثنائي الكسل العقلي لأنه اكتفى بخانتين فقط لكل ما يصدر عن الطبيعة البشرية، وكثير من الالتباسات وسوء التفاهم السائدين الآن من نتاج هذا التصنيف الذي لا يعترف بالأطياف والظلال، ويحذف التفاصيل لصالح العناوين الكبرى المجردة، لكن الأشبه بقبعات طائرة في الهواء وبلا رؤوس تستقر عليها، وحين عاد اليمين الامريكي المتطرف قرونا الى الوراء ليقسم العالم الى خير وشر وحليف وعدو كما قال الرئيس بوش الابن شعر كثير من المثقفين الغربيين ومنهم امريكيون بخطورة هذا التراجع الى ما قبل الجدلية والمنطق، ومنهم مثل تشومسكي من رأى ان الحضارة كلها تصبح في خطر اذا ساد مثل هذا المنطق الثنائي بكل موروثه البدائي، والمسألة ليست بحثا عن الرمادي بين السواد والبياض، لأن ذلك تبسيط ساذج لعالم معقد في كيمياء تشكله وتزاوج عناصره.
* * * * * * *
احسست بخطورة محاصيل ثنائية إما .. او ذات مساء عندما تحدثت في ندوة عن الراحل ادوارد سعيد، وسألتني اكاديمية عن موقفي منه، هل انا مع اطروحاته او ضدها ؟ في تلك اللحظة شعرت ان ثقافتنا لم تتحرر بعد من الثنائية، مما اضطرني الى اجابتها على نحو مجازي وقلت لها اذا كانت درجة الحرارة اليوم في هذه المدينة تتجاوز الاربعين هل تحترمين شخصا ينصحك بعدم ارتداء المعطف او حمل المظلة…. لكنني فشلت مرة اخرى في التعبير عما اريد. ثم جاء احتلال العراق ليختبر ما تبقى من منسوب هذه الثنائية، فمن رفضوا غزو العراق ومن ثم احتلاله واعادته الى القرن التاسع عشر قيل عنهم انهم يدافعون عن نظامه السياسي، وتكرر المشهد مرارا بحيث علينا ان نختار إما او ان نكون مع نظم مستبدة او مع احتلالها، وحرمتنا الثنائية المزمنة من بعد ثالث يتيح لنا ان نكون ضد الاستبداد المحلي والغزو الخارجي في اللحظة ذاتها !!
حتى في ممارساتنا المهنية علينا ان نختار فإما ان نكون شعراء او نقادا اذا كان لنا اسهام في الحقلين، ولا أدري كيف يتعامل تلامذة الثنائية مع ما قال الشاعر اليوت عندما وصف نفسه بأنه ملكي في السياسة وكلاسيكي في الأدب وكاثوليكي في الدين، هل تحكم الثنائية عليه بالطرد والاقصاء من الحداثة التي كان من اهم المبشرين بها نصوصا وحساسية ونقدا ام ان هناك ثقافة اخرى تتسع لهذا الطيف ؟؟؟؟
* كاتب من الأردن 
عن القدس العربي 

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *