*د.شهلا العجيلي
بالنسبة للسيّدة “نوفة”، فهي ليست جدّتي، ولا تمتّ لي بصلة دم، إنّها بطلة “غريق المرايا”، رواية الروائيّ الأردني إلياس فركوح، زميلي في هذا المنبر الحرّ، والصادرة في دار أزمنة- عمّان، والدار العربيّة للعلوم ناشرون- بيروت/ 2012.
ووفاقاً لما هو مقيّد في عقد الزواج، فـ “نوفة” زوجة المجاهد الشهيد “مشعل حمدان الغضبان”، من سهول حوران، فضّ بكارتها، ومضى إلى الحرب، فدخل مع أفواج أخرى فلسطين من بوابة عمّان، بحيث لم تتمكّن “نوفة” من أن تتملّى وجهه جيّداً، إلى حدّ أنّها لم تستطع تمييزه في الصورة المنشورة في الجريدة، ذات الإمكانيّات الفنيّة الرديئة لتلك المرحلة التي تعود إلى ما قبل سبعين عاماً، وسمتها النكبة بمخلبها، الذي لم يعبث بالخريطة الجغرافيّة فحسب، بل حوّر في هويّتنا فرداً فرداً.
إنّ هؤلاء الروائيّين يصنعون تصوّراتنا عن العالم، ونحن نستسلم بسهولة لما يسمّى غواية السرد، إذ يمنحوننا ما لا نعرفه من التفاصيل التي ذهبت لصالح الخطوط العامّة التي أملتها دروس التاريخ. لم تعد غايتنا صور الزعماء إذ تصدّعت رؤوسنا بمنجزاتهم. نحن نبحث عن المواساة والمؤازرة والخبرة، التي سنجدها في المدارس والمقاهي والدور والشوارع، وذلك ما يمنحه الروائيّ: دفء الحياة، وديناميكيّتها، لينحبك الإيهام بتحريك الشخصيّات الوثائقيّة مثل هزّاع المجالي، وجورج حبش، وجورج حدّاد، وحمدي منكو، ووصفي التلّ، وغالب هلسا، وأنطوان سعادة، وأمّ كلثوم، وجمال عبد الناصر… شخصيّات تتحرّك من موقعها في المتن، لتصير في الهامش، فتفسح المكان لحياة الآخرين الذين يصنعون التاريخ بحقّ، ليصير ما هو تاريخ بالنسبة إلينا، الذكرى الشخصيّة للراوي الروائيّ.
يؤسطر إلياس فركوح نساءه، يؤسطر “نوفة” التي رافقتها عند ولادتها في الكهف في (صحراء رمّ) ذئبة بعينين ومّاضتين، ويؤسطر أمّها العجوز الثمانينيّة التي واقعها شيخ القبيلة في دروب (وادي موسى)، فولدت ابنتها من (عويّد) الزوج، ويؤسطر لقاءها الليلي بجسد مجهول يترك جروحاً في لحمها الأسمر، لا يعرف أحد إن كان إنسيّاً أو جنيّاً، ويؤسطر حكاية الحبّ التي ساقتها إلى بلاد الله الواسعة، مع رسّام أيقونات يونانيّ، يكنز فلسفة أثينا وفنونها، ويلبس ثوب راهب أهداه إيّاه أحد رهبان فلسطين، ويجدل شعره الطويل الأسود، ويضع كلّ ما كنز بين يدي امرأة بدويّة، لتفلّ “نوفة” ضفائره بشبق فطريّ. ساحرة تلك المفارقة في الحبّ بين خطين تاريخيين من الصعب أن يلتقيا: منتهى البداوة ومنتهى الحضارة، لكنّ لا شيء يقف في وجه الحبّ!
ليت إلياس فركوح أغرقنا في مرآة نيكولاس سيفاركادس التي لا يُملّ من التحديق فيها، إذ تعثر فيها كلّ امرأة على رجل يحبّها، كما أحبّ ذلك اليونانيّ “نوفة”، عاملة النظافة في المستشفى صباحاً، ومصففة شعور النساء بعد الظهر، “نوفة” إكزوتيكية اليونانيّ الغريب ومجدليّته، لكنّ الروائيّين يعذّبون قرّاءهم باحتفاظهم بجزء أخّاذ من الحكاية.
يؤمن غريق المرايا، ابن نوفة (اليتيم) بتلك الأساطير النسويّة، ليكون مثل بروميثيوس، نصف إله، حيث أمّه ربّة، وأبوه مجاهد شهيد، فيبحث عن المعرفة في الكتب القديمة، والمعرفة تدفع إلى البحث والرحيل. برحيل اليتيم نقرأ تاريخ المنطقة من خلال وجوه عدّة، وجه الجسد والحبّ في حلب، ووجه النضال في فلسطين وبيروت، ووجه التأمّل في اليونان، ووجه البحر الحيّ لا الميت، في المتوسّط .
هذه المجتمعات أموميّة، هذا ما يثبت لي مع كلّ نصّ جماليّ، وأموميّتها مصاحبة لفكرة العذاب، فالنساء منذورات للهجر بسبب الحرب، وهذا الواقع ما تغيّر منذ مطلع التاريخ الحديث، إذ حارب الرجال في كلّ مكان، في فلسطين ولبنان وسورية والأردن…لكن لا ينتظر أحد اعترافاً بأموميّة المجتمعات من رجل أعمال، أو نائب في البرلمان مثلاً، سنجده اعترافاً طوعيّاً أو لا شعوريّاً من الفنّانين فحسب، الشعراء والروائيين والرسّامين، كلّ يرسم بشكل ما وجه أمّه، لذلك هؤلاء هم الذين يطلق عليهم لقب (ضمير الأمّة) لا أولئك! لم يعد التاريخ رؤية الجماعة في هذه المرحلة التي تشظّت فيها الجماعات، لقد أمسى الذات في رؤيتها للعالم، وتحوّل من تاريخ إلى ذكرى شخصيّة للروائيّ الذي وجد نفسه وحيداً في أرض خراب.
لن أسرف في الحديث عن “نوفة”، أو عن أمّها، لكن يمكنني أن أشير إلى أنّ عنوانها هو: عمّان- النافذة المطلّة على شارع الملك طلال من جهة المستشفى الإيطالي عام 1960، وإلى أنّ غريق المرايا هو يتيمها الذي يغرقنا معه في كلّ فصل في مرآة تعكس صفحة من تاريخ الأردن الحديث، وهذا التاريخ قائم في تشابكاته مع حلب وحوران وبيروت وفلسطين، إذن هو تاريخنا الذي نقرأه مفاصله بعين أخرى،حيث يموت الرجال وحيدين، ويهرب من بقي منهم إلى أجساد نساء غريبات.
________
*المصدر: عمّان.نت