فقهُ الحبّ



*علي عبيدات


خاص ( ثقافات )
عشقٌ بنكهة الألوان ..!
في البدء كان الصوت، تنهيدةُ حواء للتائه خلف تخوم الهند، وملاوعةٌ نسائيّةٌ أودت بقابيل ذات قتل وغيرة، مرّ شريط الأرض ودارت رحى العواطف في مدى الكهوف ومن سترِّت بقش، والعاشق ملتقِطٌ على شفّاه نهر، كان الحب حباً والأفانين شواهدٌ والعشب عشقٌ قُدُسْ، وإلا لما كان العمّار بين خرابين.!
الحبُ ألوان، أزرقٌ يشبهُ الله، أحمرٌ مدّ حمرتهُ صوب أنكيدو، أصفرٌ بقلق شجرة الدُر، أخضرُ من وصيفات عشيقة ولاّس، بنيٌ من طين التكوين، أبيّضٌ كأحلام عاشقة يافعَة بحصان ورجل، حشائشيٌ كشعر الصدر، كحليٌ ككحّة رجل، فارعٌ وليلّكيٌ كابتسامة مشتّاق، زيتونيٌ كشوق الكنعانيات، مبللٌ بالكُحل كعشيقة سهراب، ليلٌ كنزّاع قلوب المهابرتيين، باهتٌ كجنود باريس على امتداد سكة القطار، فاقعٌ كمقدسيين اشتعلت قلوبهم بين حرقٍ وهجرة.
الحبُ مقام، فيه ما فيه، ولا شيء عليه إلا هسيسٌ رستٍ وسقسقةُ نهاوندٍ وشقشقةُ صبا وحمحمةُ كُرد، يدوم حجازياً بنتهي بياتيّ ويتمد صوب أعالي رق الحبيب ونينوى وأربيسك، وهو انقلاب العازفين الأحرار عندما حطموا المسرح وأوهموا المعزوفة أنها هيَّ، طبلةٌ مُلحدّة، كمانٌ يصلي، خشوعُ قانون، اختلالُ فيولا، رعشةُ عودٍ واهتزازُ نايٍ بين خفقٍ وهجرة، الحبُ عزف.
الحبُ كتاب، خطه ماياكوفسكي على امتداد مسرحه عندما ضاق الورق ومات في سرواله، ريقهُ من قرين خليل حاوي، وهادهُ من أعالي أحزان تيسير الصحراوية، وأخمصُهُ هيمنغواي ذات خلاص، وغرفُهُ سيلفيا، وعنقُف عنق فيرجينيا التي أثقلتها الحجارة، وأمانتهُ هانيبال بين جموع الحيرّة ، ونفيرهُ دُنقل خلف تخوم الإنحاء وسعيرهُ حبل سبارتاكوس واندلاعه نيرون.
الحبُ زرع، ياسمينٌ نزاريٌ من مئذنة الشام، برتقالٌ درويشيٌ يهذي بين الكرمل والجليل، هيبةُ ورد مراقدٍ بناها الجواهري، ولفافةُ نجرسٍ في مطارات الببياتي، ومسكٌ يضوعُ في رحاب الأعشى، خيلهُ المرقش وأوس وابن ربيعة وابن جعدة، عطرُ أبي نؤاس ووالبّة وحبّاب، ونكهةُ عنب المعري والخيّام، وطعمُ شفاه هاتف ووصال ومشتاق وفروغ.
الحب عرفان، هدأتهُ الرومي وكرّاهُ شمس، سمعهُ رابعة وطبلهُ الجنيد، ميلانهُ ابن ادهم وأنينه الحلاج، صدقهُ السكّندري ورؤاه نفريّ، زمارهُ الكبريت الأحمر وخمارهُ الجيلاني ووجيب صداهُ الرفاعي وانطلاقتهُ العطَّار، نزيفهُ ابن سهرورد وضحكتهُ الفارض وبعض الأندلسي وديرهُ بُسطَّام.
الحبُ جسد، أنين عينٍ واعوجاج عنق، بسمةُ ثغرٍ على وجه نبعٍ وانديّاحُ رياضٍ بصورة وجنّة، صدغٌ مجزوءٌ من جنّة، كفرُ ساقٍ ولعثمّة خصر، بريد مراسالات بالأنامل ودفقُ لغةٍ لا تحتاج فم، وهو الخطى أن مس وقعها نسيمٌ على وجه بئر خلق من جبين. والحبُ كيَّان. 
الحب ُ، صلّعُ قلوبٍ بلون نسيم…
لا يشيخُ الحب.. وإن شاخ يزدادُ بهاءً وألقاً..! في ذات جلسة قال لي العاشقُ الكّهل: أحببتُ عدد الرمال والحصى، وما أُغرمتُ إلا بعد أن مات قمر النُحّاس عند معبرٍ يسمونهُ “بين عُمرين”، قلت: لم أفهم..! فقال: ولن..، مات الكّهلُ موت الوقت، ودارت الأرضُ دوراتها حتى شاخت كرمتي وجلستُ مفكراً “فيما كان العُمرُ وكيف لي أن أشعر بلذة شوقٍ أو برعشة وصلٍ وارتعاد هجرٍ ولعثمةِ التقاء.؟
مر ببالي العاشق الكّهل وصفعني صفعة نسيم، ليرخي سدول إبهامي وليفكك طلاسم لغة الظلال، قال لي – بكل صمت- : ألم أقل لك..! فصرختُ بنبرةٍ خرساء: بلى لم تقل لي..! ثم تلاشى الظل وانقطع الصوت الذي لم يصل واقعاً، وقد عرفتُ أن لا أبجدية للحب ولا صفة ولا موصوف في كل ركنٍ من أركان تشبيهاته، حتى أن البلاغة وكناياتها تُصنف كخارجةٍ على السرب.
كبرّنا وناب الترهلُ عن مجريات خضارنا وعن حفلات الصخب التي كانت تقاد بين ردهات الظهر المتين والبطن الخفي. 
في كل يومٍ حفنة دواء ومع ولادة كل الشمس نرفل معدتنا بمعادلات الكيمياء، كشكول الدواء هذا يعانق نهايتنا ويذكرنا “بأن لا عودة…!” كأن رفات سارتر هي هواؤنا وجاذبيتنا، بإعتباره مُصبرنا اللامواسي، لكن، شيءٌ ما يتلألأ خافتاً بين مخاديف القلب وجيوب الذاكرة، هو لمسةٌ أولى، هو لونٌ راقنا ودفعنا ثلث مناكبنّا مهراً للتلاحم به، ملايين الصور تلمع في الدقيقة الواحدة، مئات المشاهد الحية تباغتنا كحجرٍ هام على وجه اللاهدف وارتطم بمؤخرة رؤوسنا الهشة من لعنة الصلع والتساقط الليلي.
ربعُ ألف عام، وجحافل أيامٍ وخُمسان أسماء، كل هذا إن جلستَ وحيداً وثار نقع الصور والأخيلة.. يا آلهة التعلق..! أكلُ هذا الخراب والعطب غير مؤهلٍ للنسيان..! أكلُّ هذا الرحيل يعجز عن رمي آخر الحقائب..! أوتسقطُ الرحلة والطائرة تبارز العلو..! فكيف ننسى يا سُليمى أول الخطوات..؟ فرغم حضور ريتا واستفحال مايا ستبقى عزّة فيلق الإيسر وتواظب ليلى الحفاظ على الميامن، فكيف ننسى؟.
أولُّ الحُب.. عندما كان الماءُ أخضراً.! أولُ القُبل، عندما كانت الروح في نهاية الزُرقة، أول التأوه عندما كان الجلدُ مُتماسكاً، أول اللقاءات عندما كان الوصلُ حكراً وضمن قانون الطوارئ. كان الحُب حبّ فارسٍ رغم موت الخيل، وكان الشوق شوق مسافات رغم صخب المركبات وانسياب الطُرق… كان بوسعك أن تكون هي وتكون أنت، لكن كان كلاكما بين بينين، بيوتٌ.. عقوباتٌ.. عسسٌ.. قتلٌ بذنب سقوط شال الحراسة… ورغم هذا، كان الحبُ حاضراً في كل شنب وعبر كل قيد ورغم كل شمس وقمر…!
لا يشيخ الحُب رغم كهولته، فأصيل الخيل يجود في نهاية الطعان وعلى امتداد المدى … كهولةٌ هذا العِشق..! 
*شاعر ومترجم من الأردن.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *