*ترجمة: أزهار أحمد
عندما فاز سينكلير لويس بجائزة نوبل للآداب في عام 1930، كانت المرة الأولى بعد ثلاثة عقود من تاريخ الجائزة التي تمنح فيها لأمريكي. لم تكن محاضرة لويس التي ألقاها أثناء استلامه الجائزة طويلة ومسهبة بل كانت موجزة وموجهة إلى النقاد في الولايات المتحدة. إلا أن الكاتب المُقل تمكن من اقتناص لحظات أخرى استفاض فيها متحدثا عن الطابع التاريخي للجائزة في ذلك العام، ومعلقا على وضع الأدب في أمريكا وفي العالم حينها.
يرى لويس أن وضع الكتابة تراجع في أمريكا بعد والت ويتمان ومارك توين، وعلى الأغلب لم يعد هناك من يهمه أمرها. فقد ظهرت أمور أخرى حظيت باهتمام الأمريكيين وراجت بينهم كثيرا مثل: الهندسة المعمارية وصناعة الأفلام. أما الكتّاب الذين اشتهروا فهم على الأغلب من النوع العاطفي الوطني الحساس. كان لدى نقاد الثقافة ولويس واحدا منهم، جرأة كافية للحديث بصراحة عن وضع بلدهم. حيث قال بامتعاض أن بلده «لم تنتج بعد حضارة جيدة بما يكفي لتلبية أعمق رغبات البشر». وقال أيضا: «إن الروائيين والشعراء والنحاتين والرسامين والمسرحيين الأمريكيين يعملون في تخبط ومن غير مساعدة أحد، إلا بقدرتهم الداخلية».
كان لدى الجمهور الأوروبي المثقف مفهوم شائع عن الأمريكيين بأنهم إما «عشيرة بدائية نائية» كما جاء في عبارة لويس، أو أنهم «حشد إنساني فج مأسور بالصناعة والعلوم والمال». كما صرح لويس أن الجائزة كان يمكن أن تذهب إلى أحد معاصريه مثل ويللا كاتر أو ثيودور دريزر أو إيوجين أونيل. وسيكون للجنة الجائزة مستقبلا فرصة الاختيار من بين مواهب عديدة من الكتّاب الشباب الذين يعملون بجد ليقدموا للولايات المتحدة « أدبا يجدر بمكانتها واتساعها».
منذ عام 1930، فاز عشرة أمريكيين بجائزة نوبل في الآداب من ضمنهم أولئك الذين ذكرهم لويس في محاضرته مثل أونيل، وليام فوكنر، وارنست همنجواي. ومن الآخرين الذي لم يذكرهم كان جون شتاينباك، سول بيلو، وتوني موريسون الذين أصبحوا علامة فارقة في الأدب الأمريكي، وفي الأدب الإنساني بشكل عام. أما الآخرون مثل إيساك باشفيس سينجر، تشيسلاف ميلوش، وجوزيف برودسكي الذين جاؤوا إلى الولايات المتحدة وهم يكتبون أساسا بلغتهم الأم، فقد أصبحوا يعكسون خطوة أخرى تجاه العالمية في الأدب الأمريكي. ومن أمثلة الكتاب الأمريكيين الآخرين الفائزين بالجائزة بيرل باك التي فازت بها في عام 1938. وكانت مثالا متكررا على اختيارات اللجنة الغريبة للفائز.
خلال القرن العشرين تلاشت فكرة أن الأدب الأمريكي عبارة عن معزل ناء، ولا يعود ذلك إلى موهبة أولئك الكتاب والعشرات غيرهم فحسب، بل أيضا لأن الولايات المتحدة أصبحت ملاذا للأوروبيين المنفيين خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقاب الحرب الباردة وربما الأهم، خصوصا بسبب الهيمنة الاقتصادية لصناعة النشر الأمريكية.
تعتبر نيويورك الآن عاصمة النشر العالمي للكتب المؤلفة باللغة الإنجليزية، كما انضمت الموسيقى والسينما إلى الأدب الأمريكي لتصبح أحد صادرات البلاد الرئيسية. وما زالت أصداء الوضع الفكري الذي عبر عنه لويس في عام 1930 تتردد حتى اليوم. خذ على سبيل ذلك، الجدل الذي دار حول جائزة أدبية دولية رفيعة أخرى وهي: جائزة البوكر. فقد أعلن رئيس مؤسسة البوكر أنه ابتداء من عام 2014، لن تنظر مؤسسته في الطلبات المقدمة باللغة الإنجليزية من المملكة المتحدة وإيرلندا وزيمبابوي، ودول الكومونولث البريطاني فقط، ولكن أيضا في الروايات المكتوبة باللغة الإنجليزية من أي دولة أخرى والمنشورة مسبقا في المملكة المتحدة.
من السطح، يبدو هذا القرار حداثيا وديموقراطيا. إلا أن الرد من البعض بالمملكة المتحدة على الأقل سيكون مفاده أن هذا القرار سيفسده تدفق الطلبات من الولايات المتحدة. وهذه نقطة واضحة، لأن الحكام استقبلوا طلبات أكثر من الروايات الأمريكية في العام التالي. ونظرا لأن الناشرين محدودون في عدد الكتب التي يمكن أن ينشروها، هناك احتمال أن يقل عدد الطلبات من بلدان الكومنولث. ومن العدل تماما القول كما صرح الروائي جيم كريس أن القيود التي تحددها البوكر تعود بشكل كبير إلى أهميتها ومعناها. (لاحظ الكتاب البريطانيون أنهم قد لا يكونوا مؤهلين لجائزة البوليتزر في أي وقت قريبا).
جزء من رد الفعل الغاضب ذلك مرده تجاري باعتبار أن المال أحد العوامل الأساسية لجائزة أدبية – فالقوائم الطويلة والقصيرة التي تسبقها – هي فقط لبيع الكتب. وكلما زاد توافد الطلبات العالمي كلما قلت فرص فوز المتقدمين من المملكة المتحدة ودول الكومنولث. إضافة إلى ذلك، هناك أمر تجاري آخر يعود إلى ما ذكره سينكلير لويس حين وصف أمريكا في عام 1930 بأنها «الأرض التي قد يبنى عليها بنايات من 80 طابقا، وتصنع فيها سيارات بالملايين، وأطنانا من الشعير بالمليارات». وهو نفسه ما أدلت به الروائية الإنجليزية جانيت وينترسون في حديث لصحيفة لندن المسائية قائلة: «هذه البلاد تابعة لأمريكا، وكأننا كلاب مطيعة، وهذا ما يجعل الأشياء غير واضحة للحكام». ويتبادر إلى ذهني أن صورة توني بلير مع جورج واشنطن، وأيضا تصريحات لويس عن جائزة نوبل حول القوة الغاشمة لأمريكا الرأسمالية، تجعلان الأمريكيين فعلا يفوزون أكثر بالبوكر لأنهم يفوزون بالأكثر من كل شيء.
وراء الشكوى المتعلقة بقرار البوكر، هناك سبب آخر للنقد، يعود إلى نوعية وطبيعة الأدب الأمريكي نفسه. فالروائي البريطاني فيليب هينشير يعيب الرواية الأمريكية على اتساعها. فقد قال لصحيفة نيويورك تايمز «الرواية الكبيرة التي تكون موجهة للعالم كله، ليست إنجازا أدبيا عميقا. فبعض الروايات الجميلة تبدو وكأنها موجهة لأكثر من ثقافة، مع أنها تكون ضاربة بجذورها في المحلية». قد يكون هينشير خلط بين الروايات الأمريكية والأفلام العملاقة والتي تكون موجهة لجذب جمهور عالمي لكسب المزيد من الربح. ومن الصعب تخيل وجود رواية تكون موجهة «لجميع العالم»، ولا يتبادر إلى ذهني أي أمثلة أمريكية مؤخرا». أو لنقلها بطريقة أخرى، أن الروائي الذي يبدأ بكتابة كتاب آملا أن يفهمه جميع القراء في العالم من المرجح أنه لن يلقى صداه لدى أحد».
هناك انزعاج من أن جوائز الأدب الأمريكي تختار الروايات ذات القيمة المادية الكبيرة، والتي تنتشر اجتماعيا أكثر من غيرها. ولكن الفائزين بجائزة بوليتزر وجائزة الكتاب الوطنية الأخيرة تجعل أي نوع من التعميم يبدو صعبا. بغض النظر عن جميع الروايات العظيمة أو الصغيرة جدا، سواء كانت أمريكية أو لا، فهي «محلية»، وباستخدام كلمة هينشير: هي محلية بالنسبة لوعي المؤلف، وللشخصيات والمشاعر والأماكن التي تحتويها».
ولعل أكثر ما أغضب هينشير هو أن أمريكا نفسها لا تظهر كمكان في العديد من الروايات التي تتأهل لنيل الجوائز، ومع أن هذه الروايات توصف بأنها أمريكية، ألا أن أمريكا تكاد تكون غائبة فيها. وفي مقال نشر في الجارديان، قال إن الثلاثة الذين وصلوا للنهائيات هذا العام: روث أوزكي، جومبا لاهيري، و نوفيوليت بولاوايو، عاشوا فقط جزءاً من حياتهم في أمريكا، لذا فان كل رواية من رواياتهم تحكي قصة عن أوطان أخرى.
أو كما قال للتايمز: «الروايات التي تتحدث عن الهنود الذين يغادرون أوطانهم الغريبة ويعيشون في نيوجرسي جميلة، لكن لا يجب أن يزاحموا أولئك الذين يكتبون عن ثقافاتهم الخاصة». ففي رواية جومبا لاهيري الأخيرة «الأرض المنخفضة» يقع جزء منها في جزيرة رود. يكتب هينشير كما لو كان الكتاب الأجانب يجب أن يكونوا محميين من ابتذال الضواحي الأمريكية. كما أن القراء العالميين يجب أن يكونوا بمنأى عن أي مخرجات أدبية قد تنجم من الخلط بين الاثنين. وبالنسبة لمستقبل البوكر فقد قال: «رواية يكتبها هندي، يعيش في الهند، وتكون حول الهند، دون إشارة إلى حياته اللاحقة في سينسيناتي لن يكون لديها أية فرصة».
يعتقد الكثيرون أن جائزة نوبل للآداب عبارة عن استفتاء عالمي لهيمنة الأدب الأمريكي. آخر مرة منحت فيها الجائزة لأمريكي كانت لتوني موريسون في عام 1993. ويبدو أن تلك السنوات الغائبة لم تكن في حسبان أحد، ففي عام 2008 قال هوراس انجدال الذي كان آنذاك يشغل منصب الأمين العام للأكاديمية السويدية «إن الولايات المتحدة منعزلة جدا، وكأنها في جزيرة نائية، فهم لا يترجمون بما يكفي ولا يشاركون في الأحداث الأدبية الهامة، وهذا الجهل يحصرهم. في الحقيقة، ليس كل ما قاله خطأ، فالناشرون الأمريكيون لا يترجمون إلا القليل جدا من الكتب إلى الإنجليزية وتشكل حركة الترجمة 3% فقط سنويا. إلا أن تصريحه هذا نبه إلى حقيقة أن أكثر من 60 مليونا من الأمريكيين يتحدثون لغة أساسية بجانب الإنجليزية. وهذا يعني أن الولايات المتحدة بعيدة جدا عن كونها ثقافة أحادية متخلفة أو حتى أحادية اللغة. هذا ما عبر عنه فيليب روث من نيوجيرسي.
انفعل النقاد بغضب من تصريح انجدال ، مما جعله لاحقا يستغرب ويرد بأن حديثه كان عاما جدا. تنحى انجدال عن منصبه بشكل نهائي في عام 2009. ورغم أن خليفته بيتر انجلند عارض ما قاله سابقه من اتهام للكتاب الأمريكيين. إلا أن الضرر قد وقع. وبدأت التعليقات حول أن جائزة نوبل تتجاهل الكتاب الامريكيين بشكل واضح، وأن المثقفين الأوروبيين ينبذون المثقفين الأمريكيين. ولعل أفضل طريقة لإهانة الأمريكي الطموح للعالمية هي أن تطلق عليه لقب ريفي جاهل، لا يفهم إلا بالإنجليزية ويبعد نفسه عن المثقفين الحقيقيين، وتجادله في العزلة الجغرافية والسلام المحلي وفي وفرة الماديات. وقد قرر السويدي أننا ما زلنا «عشيرة بدائية نائية»، كما قال عنا سينكلير لويس في عام 1930.
وقد يسأل المثقف الأمريكي: أيهما أصح؟ هل نحن مبعدون لهذه الدرجة عن العالم لنؤخذ على محمل الجد؟ أم أننا منخرطون بعمق فيه لدرجة عدم الظهور؟. في عام 1930 قال لويس لجمهوره بأن بلاده «في طريقها للتخلص من ضغط العصبية الثقافية المحلية» وهذا صحيح، لكن، قد يندهش أنه بعد مرور هذه السنوات ما زال المثقفون الأوروبيون يكررون الأشياء التي قالها في محاضرته.
________
المصدر: عن النيويوركر/ جريدة عُمان