لماذا أكتب؟


*د.حسن مدن


في التطبيقات التي ينشرها موقع «فيسبوك» لزبائنه ليتسلوا بها، أثار فضولي تطبيق حول المهنة المناسبة لصاحب الحساب الذي يجري الاختبار على نفسه، متبعاً الإجراءات التي يطلبها الموقع، وهي في حال هذا التطبيق لا تعدو تحديد جنس المستخدم، ذكراً كان أو أنثى، قبل أن يمهلك الموقع بضع ثوان يزعم فيها أنه يقوم بتحليل بياناتك ليستخلص بعدها المهنة التي تلائم شخصيتك.
وعلى سبيل التسلية والفضول، أجريت هذا التطبيق على نفسي، ليأتيني الجواب من «فيسبوك» بأن المهنة التي تناسب شخصيتي هي : الهندسة المعمارية، وهي ما أنا على يقين من أنها وكل فروع الهندسة الأخرى، وكل ما يتصل بالرياضيات والحساب وحتى العلوم الطبيعية أبعد ما تكون عن قابليات شخصيتي لأن أهتم بها، أو أتخصص في إحداها، ناهيك عن أن أبرع فيها، ودهشت كيف اختارها «فيسبوك» كي تكون بين عشرات وربما مئات المهن مهنة لي.
خطر هذا في ذهني وأنا أفكر في الإجابة على السؤال الذي طرحه ملحق «شرفات» علينا، وهو لماذا نكتب؟
بالنسبة لي يبدو الجواب سهلاً، حد البداهة، هو أني أكتب، ليس لأن الكتابة رسالة أو واجب تجاه المجتمع، ذلك أن كل المهن تنطوي على رسالة، وكلها يمكن توظيفها، كما الكتابة نفسها، لتكون رسالة بناءة وواجبا أخلاقياً تجاه المجتمع، وجمعيها، أيضاً، يمكن توظيفها بطريقة أو بأخرى لتؤدي الدور النقيض. صحيح أن الكتابة كونها تخاطب العقول وتتوجه عبر حوامل واسعة الانتشار كالكتب والصحف وسواها نحو الرأي العام، يتيسر لها من قوة التأثير ما لا يتيسر، بالمقدار نفسه، للمهن الأخرى، فيجعلها تارة كتابة للتنوير وحاملة لنداءات الحرية والتسامح، ويجعلها تارة أخرى حاملاً للقيم النقيضة، ولكن ذلك لا يغير من جوهر الأمر، وهو أن المرء، رجلاً كان أو امرأة، لا يصبح كاتباً (أو كاتبة) إلا إذا حباه الله بموهبة الكتابة.
إذن، أنا أكتب لأني لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر. لم يكن بوسعي أن أكون موسيقياً أو فناناً تشكيلياً أو ممثلاً في السينما أو على المسرح، لأني لست موهوباً في أي من هذه الفنون، ولم يكن بوسعي، أيضاً، أن أصبح طبيباً أو مهندساً أو طياراً… الخ، لأني لم أولد بالميول التي تشدني نحو إحدى هذه المهن أو التخصصات. منذ صباي المبكر شعرت أن الكتابة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها أن أعبر عن نفسي، وأذكر أن أستاذ اللغة العربية في المرحلة المتوسطة طلب منا، في حصة التعبير، أن نكتب موضوعاً حول ما نتمنى أن نكونه عندما نكبر، وكتبتُ يومها أني أريد أن أصبح كاتباً أؤلف الكتب وأنشر في الصحف، وهذا ما فعلته عندما كبرت.
هل يحترف الكاتب الحلم، فينزِّه الكتابة عن الطَّارئ والعابر واليوميّ، ليحيلها إلى قيمة مجرَّدة خارج الزَّمان والمكان، ولكنَّ الكاتب الذي يحترف الحلم عن حقّ يجد يراعه مترعاً بقسوة الواقع، حين ينتابه الإحساس القاسي بأنَّ الحلم يكفُّ عنْ أنْ يكون حلماً، وفيما يشبه دعاء الرُّوح يوخزه السؤال كإبرة حادة: كمْ يلزمني من القوَّة والإرادة كيْ أبقى على حافَّة الحلم؟ أجمل ما في الحلم – بالمناسبة – هي حافَّته، لأنَّنا ما إنْ نغادر هذه الحافَّة حتى نهوي في قاع عميقٍ بلا قرار اسمه الحياة أو الواقع أو الحقيقة، أو أي اسم من هذه نشاء.لكن السؤال: لماذا نكتب، يحيل على أمر مضمر في ثناياه، يتصل، فيما أشعر، بما إذا كان للكاتب، وقد أصبح كاتباً، رسالة أو هدف يرمي إلى تحقيقه من خلال الكتابة؟
هذا ما سعيت للإجابة عنه، في أكثر من موضع من مواضيع كتابي الأحدث: «الكتابة بحبر أسود»، فعلى سبيل المثال عالجت في أحدها المنطقة المشتركة بين الحلم والكتابة. الكاتب القلق على كتابته حريص على إبقاء هذه المنطقة حاضرة أبداً، حريص على تغليب الجانب الحالم في ذاته. حتى ولو كانت عناصر الحلم مستمَّدة من الواقع، فإنَّ الحلم قادر في لحظة الكتابة على اكتساب استقلاليته، فضائه الخاص به، الذي بموجبه تبدو الكتابة مشاركة وجدانيَّة للقارئ أو معه؛ لأنَّ الكاتب قد يقول أشياء كثيرة يعرفها القرَّاء، ولكنَّهم مع ذلك يشعرون بمتعة الكتابة، ربما في تلك اللحظات التي يعبِّر فيها الكاتب عنْ أشياء تخصُّهم، أشياء من عوالمهم.
الرِّوائي «لورانس داريل» في «جوستين» أحد أجزاء رباعيته الجميلة عن الإسكندرية قال: إنَّه يحسُّ بالرَّغبة في أنْ يكون لما يكتب صدى التأكُّد واليقين، لكنَّه لا يرغب في أنْ يتمَّ ذلك عن طريق المصطلحات الفلسفيَّة الكبيرة، إنمَّا في ذلك المنحى الذي تحتويه الكتابة وتعبِّر عنه سلوكيِّات المحبِّين الصَّامتة، وهو أوضح إنَّه يعني بذلك أنْ يقول للقارئ: انَّ العالمَ قائمٌ على الإدراك والفهم البسيط كتصرفٍ يتَّسم بالرِّقة، الرِّقة البسيطة، يقول «داريل»: «إني أحبُّ التَّفكير في عملي وكأنَّه في بساطة مهد طفلٍ تهدهد فيه الفلسفة نفسها لتنام وإبهامها في فمها».
ولكنْ ليس كلُّ الكتَّاب يبلغون هذا المبلغ الرَّاقي في الكتابة الذي تنسلُّ الأفكار في ثناياها بالرِّقة البسيطة التي عناها «داريل». إن الواقع لفرط فجاجته وقسوته غالباً ما يفسد مساحة الحلم ويتطاول عليها. والكاتب ليس حرَّاً دائماً في أنْ ينأى بنفسه عن الواقع، إنَّه متورِّط في هذا الواقع حتَّى النُّخاع، وهو معنيٌّ بأنْ يقول كلمته في اللحظة التي يتحيَّن فيها قول هذه الكلمة دون أنْ يكون له دائماً المتَّسع من الوقت لاستيفاء شروط الكتابة التي عناها «داريل».
وهذا يصحُّ على الكتابة بأنواعها، المعنيَّة بأنْ تكون في قلب الحياة لا خارجها. للمفكِّر الشَّهيد حسن حمدان (مهدي عامل) كتاب أسماه «نقد الفكر اليوميّ»، لم يكنْ الكاتب في هذا الكتاب ينتقد الكتابة ذاتها، وإنَّما ينتقد الفكر المرتجل، الآنيّ، الفوريّ الأشبه بردة الفعل منه إلى التَّحليل المتأنِّي. يمكن للكتابة الجمع بين الحلم وبين الانغماس بالواقع، بالحياة وبالقرب من النَّاس، بوصفهم هموماً وأشواقاً، عبر شحذ حاسَّة التقاط ما هو جوهري في الحياة، حتى وإنْ تبدَّى في أبسط الأمور وأكثرها عاديَّة.
ويبدو أنَّ الكثير من متاعب الكاتب مرتبطة بعمليَّة الكتابة ذاتها، فهو حين يتَّصل الأمر بالكتابة الإبداعيَّة، يغرق في ينبوع داخليّ عميق، هناك تكمن منطقة منْ فوضى النَّفس وتمزُّقاتها، وكلَّما أوغل الكاتب داخل نفسه بحثاً عنْ الضَّوء، كلَّما ازدادت الفوضى، كأنَّ مهمَّة الكاتب والمبدع عامَّة أنْ يبحث عن ذاته التَّائهة في خضمِّ تلك الفوضى، وأنْ يرمِّم – عبر الكتابة – انكساراته المختلفة.
هل الحزن طبيعة مستوطنة في أنفسنا، حتى لو كنَّا نحبُّ الحياة، وهو يجد في أتفه الأسباب وأبسطها ذريعته المرتجاة ليعلن احتلال حواسنا، والسَّيطرة على يقظتنا والمنام. ألأنَّ المسافة بين أحلامنا والحياة شاسعة وأكبر مما نتصوَّر؟!
مرَّة سألت إحدى الصَّحفيات الطَّيب صالح عما إذا كان حزيناً، فأجاب بالتالي: «في الدَّاخل أجل أنا حزين، لكنَّني لا أدري لماذا، كل ما أعرفه أنَّ في داخل النَّفس بركة واسعة من الأحزان. ومهمَّتي ككاتب ليست النِّسيان، بلْ أنْ أتذكَّر، والمشكلة بالنسبة إليّ هي تذكُّر أشياء نسيتها تماماً، لكنَّ النِّسيان في الحياة العاديَّة هو مرحلة الألم العظيم».
قال الطَّيب صالح شيئاً آخر مهمَّاً عن الخوف. برأيه أنَّ الأمل معناه أنَّ العالم المألوف للإنسان على علَّاته من المحتمل أنْ يتحوَّل إلى عالمٍ غير مألوف، والخوف سببه الانتقال من المألوف إلى غير المألوف. وردَّاً على سؤال عنْ الحدث الحيّ الذي يستقرُّ في أعماقه، أجاب بأنَّ هناك أشياء ضاعت يتذكُّرها، لحظات وصل فيها إلى قليل من تحقيق اكتمال الذَّات، أحياناً يسترجعها، لكنَّها أطياف تمرُّ منْ حين إلى آخر. «هناك أناسٌ أحببتهم وذهبوا أتذكَّرهم، كذلك لحظات كانت مؤلمة جدَّاً أو مفرحة جدَّاً أتذكَّرها».
لكنْ هل يشكِّل الآخرون الجحيم على نحو ما ذهب جان بول سارتر؟
يرى الطَّيِّب صالح أنَّه تأتي لحظات يظنُّ فيها الإنسان بأنَّ الآخرين هم الجحيم، لكنْ في لحظات يصبح الجحيم داخليّاً في نفس الإنسان. هذه العبارة – برأيه – يجب ألَّا تؤخذ مأخذ الجدِّ: «أنا أحبُّ أنْ أنتمي للآخرين على علَّاتهم، ولا أحسُّ بهذا الجحيم إحساساً مستمرَّاً».
آراء الكتَّاب التي يقولونها خارج أعمالهم الإبداعيَّة تشكِّل مفاتيح أو مداخل معرفيَّة ونفسيَّة للولوج إلى عالم إبداعهم. ومن النَّادر أنْ يكتب المبدعون شهادات وافية تفصيليَّة، إنَّهم يفشلون في ذلك غالباً، لأنَّهم يكتفون بتضمين آرائهم في إبداعهم. لكنَّ شذرات الآراء التي يقولونها بين الحين والآخر كهذه التي قالها الطَّيِّب صالح تعيننا على معرفة أفضل ليس لأدبه فقط، وإنَّما لذواتنا نحن أيضاً كأفراد، لأنَّ حساسيَّة المبدع حَريَّة بالتقاط ما هو عامٌّ ومشترك لدى البشر جميعاً.
نحن جميعنا «متورطون»، بمقادير مختلفة، في السياسة، ولا منجاة للأدب والفن عموما، من أن يتورطا، هما أيضا، في القضايا المصنفة في عداد السياسة أو الشأن العام. وحتى في ما نحسبهُ نصا ذاتيا صرفا، أو تناولاً لقضية إنسانية ذات صلة بالقيم الكبرى، تحضر السياسة.
في «الملك لير» يُقرع شكسبير الاستخفاف بالسياسة، التي هي في احد أوجهها، عندما نتحدث عن التباسها بالمشاعر، إحساس بالمعاناة العامة، التي تصبح المعاناة الفردية في كثير من حالاتها تجلياً شخصانياً لها.
يقول شكسبير: «تجرعي الدواء، أيتها العجرفة، تَعري لتشعري بما يشعر به البؤساء، علك تنفضين الفائضَ عنكِ لهؤلاء، وتظهرين السماء أكثر عدالة».
__________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *