*محمد إسماعيل زاهر
ما الذي يمكن أن يجنيه المرء من وراء القراءة؟ سؤال تبدو الإجابة عنه شديدة البداهة بالنسبة لمن تعوّد تلك العملية الشاقة والمرهقة والمسماة قراءة . ولبساطة السؤال ربما لم يتوقف أحدهم يوماً ليفكر فيه مطولاً، وهو الشعور الذي ينتاب من يقتني كتاب الناقد الأمريكي هارولد بلوم “كيف نقرأ ولماذا؟”، حيث يظل الكتاب قابعاً في مكانه لفترة طويلة، وينتابنا التفكير كثيراً في الإضافة التي من الممكن أن نحصل عليها من كتاب يحمل عنواناً مثل هذا .
القراءة تبني الوعي، وتزيد معرفة الفرد بالعالم من حوله، أداة لبناء العقل، وسيلة للنهوض والتقدم . . . . الخ، أجوبة كثيرة ستجدها تقفز من الذاكرة، إذا حاولت تجميع ما طالعته هنا أو هناك عن هذا الموضوع الذي نطرحه بصورة عابرة في مقال أو دراسة، ونناقشه غالباً بطريقة مدرسية مملة، ربما تدفع من يتابع مثل هذا النقاش إلى النفور من القراءة نفسها .
القراءة لدى بلوم، عالم آخر تماماً، هو يضعنا أمام ذواتنا التي تورطت فيها يوماً حتى أصبحت أسيرة لها، يستعير بلوم مقولة “كافكا” عن الكتاب الجيد الذي يجب أن يكون فأساً جليدية لكي تكسر هذا البحر الذي تجمّد داخلنا، ففي كل كتاب عبقري نتعرف إلى أفكارنا “نحن” المرفوضة، تلك الأفكار التي تتشكل ببطء لتؤسس لذلك الجليد .
القراءة فعل تمرد مستمر للخروج على العادي والنمطي والمكرر المحيط بنا يومياً، كشف لما نحاول أن نخفيه، أو ربما لا ندرك أنه يقبع في جبل ضخم يغمر الماء معظمه ولا يظهر منه إلا القمة، وهو ما أطلق عليه فرويد مرة اللاوعي . القراءة تمنحنا طمأنينة أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، فهناك من يشعر بما نحس به، مهما اعتقدنا أنه يتسم بالغرابة . . . القراءة تتحول إلى صمام أمان لنا وللآخرين في الوقت نفسه، تعطينا سلاماً داخلياً وثقة أكبر بالنفس .
القراءة حاجة داخلية أولاً وقبل أي شيء آخر، وهذا ما يؤكده بلوم . ففي شروحاته طوال الكتاب حول أعلام الأدب في القصة والرواية والمسرح والشعر، يرسخ لفتنة القراءة تلك التي تنطلق أولاً من محاولة هؤلاء فهم الذات والاقتراب من دواخل أكبر عدد من البشر الذين لا يمكننا مقابلتهم في الواقع، وعلى هذا الأساس لا يهتم بلوم بمسرح شكسبير من الزاوية الفنية، بل يركز على قدرة مبدع هاملت وعطيل والملك ليرعلى الاقتراب من الزوايا والأركان المنسية في أعماقنا، والتي توجد فيها بالضرورة بعض ملامح هذه الشخصيات . وبخلاف شكسبير هناك تشيخوف وموباسان وسرفانتس وبروست وملفيل وغيرهم الكثير .
القراءة متعة وتوسيع لرقعة الحياة، وتفعيل لحس السخرية الذي إذا أصابه العطب فسيموت الجانب المتحضر فينا . أما الشخص الذي يقرأ فيجب أن يكون “مبتكراً”، فليس كل من يطالع كتاباً بقارىء، فهذا الأخير لا يمكن أن يتكون إلا عبر سنوات من المتابعة والتراكم الدؤوب، الأمر الذي يتطلب البحث والتنقيب والكتاب الذي يقود إلى آخر، والكتاب الذي يثير فكرة، والكتاب الذي يفجّر قضية، والكتاب الذي نقرؤه أكثر من مرة، والكتاب الذي يؤثر فينا بقوة، وربما يغير الكثير من قناعاتنا، والكتاب الذي نعود إليه مرات، لأننا نحتاج إلى معلومة أو اقتباس أو عزاء ما لموقف نعايشه . . .الخ، والكتاب الذي نحتاج لكي نفهمه إلى كتب عدة ممهدة ومؤدية إليه، والكتاب الذي يعلق في ذاكرتنا، والكتاب الذي لا يثير فينا شيئاً للوهلة الأولى ثم نكتشف أهميته في ما بعد، والكتاب الذي نشغف به ثم نعرف سطحيته لاحقاً، والكتاب الذي نتعب في الحصول عليه، ربما قبل الانترنت، والكتاب الذي يهدى إلينا لوضعه جانباً، والكتب التي نتخلص منها بين فترة وأخرى، فينتج من جراء هذا القدرة على انتقاء الكتب، والتثاقف الذهني مع الأفكار التي تتضمنها أو الانفعال العاطفي مع الأحاسيس التي تثيرها، القراءة وفق هذه العملية الطويلة والمعقدة تؤكد معنى أن القارىء الحقيقي لابد من أن يكون مبتكراً .
“لماذا نقرأ؟”، سؤال تمثل الإجابة عنه، معرفة متكاملة بنوازعنا وشخصيتنا، وليست حصة مدرسية نطالع فيها: العوامل التي تدفع إلى القراءة منذ الصغر، والفوائد التي تعود علينا من جراء القراءة، الأهمية التي سيجنيها المجتمع من وراء القراءة، وليست فرصة لإبراز كمّ ما حصّله أي منا في حياته من معلومات وقراءات يتباهى بها في هذا الحوار أو ذاك اللقاء، ثم يظهر الخواء في الناتج الإبداعي، وليست محاولة للاقتراب من عاهة تؤكد أننا أقل شعوب الأرض قراءة، فربما تمارس قلة ضئيلة فعل القراءة بدأب وصدق وتشد الجميع إلى الأمام، إذا توافرت النية والشروط الصحية .
أفكار عدة يثيرها الكتاب، منها ما يتعلق بضرورة مراجعة تعاطينا مع مسألة “القراءة”، أو ما نراكمه بداخلنا تجاهها، ولا نحسن التعبير عنه، ومنها ما يرتبط بغياب كتابات عربية تتحدث عن جماليات فعل القراءة نفسه والإشباعات التي نحققها من ورائه، أما ما يخص رصد تجليات القراءة، سواء كان من خلال دراسة انعكاس الترجمة المتسارعة أو الانفتاح غير المسبوق على العالم عبر وسائل لم تكن متوفرة سابقاً، في كتب تصدر يومياً ونجدها على أرفف المكتبات المختلفة فمسألة تحتاج إلى سؤالين رديفين إذا فعّلنا حس السخرية: ماذا نقرأ؟، وماذا نكتب؟، ولكنها تظل في النهاية سخرية بمذاق المرارة .
_______
*الخليج الثقافي