وجوه طلال معلا أمام حطامها الوجودي


مهى سلطان


كان لا بد أن يقصد الكاتب والباحث والفنان السوري طلال معلّا بيروت بعد غياب، حاملاً أوجاعه والعذابات الإنسانية التي يعيشها يومياً في سورية رافضاً اللجوء إلى إي بلد آخر، كي يقف أمام جمهور الفن، بين لوحاته بشعور لا يعرف القطيعة عن المدينة التي أحبها من بعد شامه التي كانت بالأمس القريب قبلة الأنظار. في زمن السلم في سورية كان طلال معلّا يؤسس لبينالي الشارقة ويعمل على استضافة فنانين ونقاد ومثقفين من العالم ثم ليكتب مؤلفات كثيرة حول إشكاليات الفن المعاصر، ويتبوأ مراكز عديدة منها رئيس المركز العربي للمعلومات، ويقيم المعارض والندوات الدولية حتى ان نجاحات البينالي التي قامت على عاتقه ارتبطت بإسمه على مدى أعوام. كان البينالي وقتئذٍ في عصره الذهبي قبل أن تصل موضة استقدام الموظفين الأجانب ليحلوا محل الأدمغة العربية.

من كان يتخيّل ان هذا الرجل سيفارق مضطراً ذلك الحراك الدينامي في الشارقة ليعود الى سورية حاملاً أحلامه وآماله بين يديه، فإذا به يعيش أهوالاً لم ترها عيناه من قبل، من دمار وقتل ومجازر وأنهار دم. وإذا كان في بادئ الأمر قد واجه المآسي بالصمت، فإنه قرر أن يكون للصمت مكانٌ في اللوحة، حبلٌ يتعلق به، كي تنجو العينان من فظاعة الرؤية. وطلال معلّا قرر أن يفتح عينيه هذه المرة على أحوال الناس بدل أن يغلقهما، قرر أن يستبقي الحياة ولو بالحلم، وأن تتحول هذه المشاهدات بعنفها وقدريّتها الى موضوعات يرسمها على القماش والورق، في نتاجٍ هو الأخير يقوم بعرضه حالياً في صالة «تجليات» في «الصيفي فيليج» تحت عنوان “أرى الناس”.
نظرات الرعب في العيون، هي أكثر ما يلاحق زائر المعرض، وهو يتنقل بين وجوه شاخصة الى موتها المقبل، بل الى الغد الأرعن، الى سماء ملوثة بالحرائق ورماد النار، الى ركام من الأبنية المنهارة والجثث المتلاشية بين أحضان الثكالى. ثمة تعبيرية ذات طبيعة درامية خارجة عن كل تصنيف، وهو خروج لا بد منه لا سيما حين يتحول الفن متراساً أخيراً للحياة نفسها، أو صراخاً مشرئباً مثل نار القلب والغضب المكتوم وقلة الحيلة. لوحات تحكي بالريشة واللون الحرب العبثية، وما يراه الفنان وما لا تصدقه عيناه، فالشخوص مثقلة بالمشاعر الملغزة، ولم يعد من مكان لشحذ الخيال لفرط غرابة الواقع الذي يتفوق على أي تصوّر، الواقع المفجع الذي يصدم ويبعث في النفس القرف والشفقة والاشمئزاز. فالموت متربص ومستبد والضحايا يسقطون قتلاً أو غرقاً بسبب الهجرات غير المشروعة التي تتم عبر البحار، طلباً للأمان المستحيل.
في زمن الفواجع والمآسي التي لا تنتهي… في زمن غياب اليقين، تنبري وجوه طلال معلّا الكابوسية بكدماتها وأثلامها وبؤسها، كي تقف في صدر الصورة وتنظر لترى الينا بدل ان نرى اليها. الخوف من المصير، لعله الخوف الوجودي الذي ينقلب صورياً بفعل التشخيص القائم على التشويه، وتبسيط الملامح وإمحاء الخصائص، كي تغدو وجوهاً مؤسلبة ومتشابهة في الوحدة والكآبة والقنوط، حتى تكاد تكون نموذجية في عذاباتها الإنسانية. انها وجوه لا تستدعي ما هو خارجها لأنها مشغولة بحواراتها الداخلية، بهموم وشجون من قلق وحيرة وارتقاب. هكذا تأتي محاكاة معلّا للواقع عفوية تلقائية لا تعرف التنميق، شبيهة بطريقة ما في الكلام والاعتراف والرغبة النابعة من الضرورة. لذا فهي لا تنتمي الى مدرسة محددة وإن كانت ظاهراً على تماس مع التعبيرية المعاصرة في العالم، ولكن عالمه اقرب الى الشعر منه الى الحقائق البصرية، والى البصيرة منها الى البصر.
في أعماله يسعى طلال معلا للإقتراب من الناس، كقربه من نفسه وأدواته وألوانه، مخترقاً كل الجماليات التقليدية في رسم الواقع، من اجل لغة أخرى هي لغة الألوان ومدلولاتها البصرية. إذ ثمة مستويات في الفعل التلويني حين يستنبط قوة التعبير من كثافة الألوان وتمازجها وإئتلافها وتنافرها، لكي يعطيها طابعاً تحريضياً استفزازياً، لكنه حين يفرغ من الشكل ينصرف الى معالجة محيطه اللوني بحرية أكبر في معالجة الخلفيات حتى لتبدو احياناً فضاء تجريدياً قائماً بذاته. فهو ينأى بأسلوبه التشخيصي عن العالم المادي المقرر، بمقدار ما يستوحي منه وينهل من مجريات الأحداث المحيطة به، يستوحي منها لأنه يشعر بانتمائه اليها. هكذا تأتي كائناته كأنها عمارات بشرية ذات أنوف مفلطحة وهيئات مشرقية وقد استبد بها الارتحال وسط سحابات من رماد. فالإنسان بلا مكان يبدو مرتحلاً لا يعرف الى أين، وهو مشّاء نحو المجهول، لذا ينعدم خط الأفق وينسحق تحت وطأة أقدام الطغاة وتتحول المدن ركاماً من الحطام. وهو الحطام الرمادي الذي يعوّل عليه معلّا في الإيحاء بالعمق المكاني الذي يحتل فضاء اللوحة.
—–
الحياة

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *