“البحيرة” في كازابلانكا.. سوق عريق للكتب المستعملة في مواجهة المجهول




الطاهر حمزاوي*


خاص ( ثقافات )
كازبلانكا- هنا وبقلب مدينة الدار البيضاء؛ العاصمة الاقتصادية للمغرب التي خلدها المخرج الأمريكي مايكل كورتيز في المخيال العالمي من خلال فيلمه الشهير “كازا بلانكا” المنجز سنة 1942، وعلى بعد خمس دقائق من ساحة “الأمم المتحدة” بوسط المدينة، التي يقطعها اليوم “الترامواي أو ” الحمار الحديدي” كما يحلو للبعض أن يسميه كعنوان للسخرية من الحداثة المعطوبة القادمة من وراء البحار، والتي لم تستطع أن تفعل فعلها في عقلية الانسان البيضاوي وسلوكه، إذ في هذه المدينة المليونية لا تزال تتعايش وسائل النقل الحديثة مع وسائل نقل بدائية كالعربات المجرورة بواسطة الدواب أو المدفوعة بواسطة أشخاص ذوي ملامح بدوية لم تفلح صيحات الموضة في تغيير ملامحهم ولا سلوكياتهم الخشنة.
هنا وفي قلب “كازا بلانكا” العصية على الترويض وحيث تصطف مقاه ما زال الجلوس بها يحيل على الزمن “الاستعماري” الذي كانت تعيش عليه العاصمة الاقتصادية للمغرب مثل مقهى” كافي دوفرانس” والايكسيسيور” ودونكشوط” وحيث مجسم كبير للكرة الأرضية يختصر العالم بقاراته الخمس.
على بعد خمس دقائق من هنا ومشيا على الأقدام ووراء أسوار المدينة القديمة سواء أمررت من باب “مراكش” المنفذ الرئيس إلى داخل المدينة القديمة أو تسسللت عبر الأزقة الضيقة على إيقاع أصوات شاتمة أحيانا ومعتذرة أخرى، وتحت رحمة التجار الذين تدور عيونهم بسرعة في محاجرها متصيدة الوافدين الجدد من أجل بيع بضاعتهم المصفوفة أمام دكاكينهم، أو سواء سرت في الشارع الموجود وراء أشهر سلسلة فندقية بالمدينة والذي يتفرع إلى شارعين انفا المؤدي إلى شاطئ عين الذئاب الشهير بعلبه الليلية، وشارع باريس المؤدي إلى مسجد الحسن الثاني الرابض على مياه المحيط الأطلسي ثاني أكبر مسجد بالعالم بصومعته الشاهقة والذي كان بناه الملك الراحل الحسن الثاني والد الملك الحالي محمد السادس بمساهمة شعبه كتعويض عن وعد وعده للبيضاوين وهو دفن والده محمد الخامس بمدينتهم عوض العاصمة الرباط التي يوجد بها ضريحه الآن، وهو إلى جانب ذلك سعى من خلاله الحسن الثاني بث ظلال روحانية على المدينة التي تقبل على الحياة بكل ما أوتيت من قوة. 
سواء فعلت ذلك وانحرفت يمينا فإنك ستصل في كل الأحوال إلى بغيتك ومرادك، إنه سوق لا ككل الأسواق، بضاعته غير البضاعة المعروفة والمتداولة ورواده لا ككل الرواد. يتعلق الأمر هنا بسوق “البحيرة” أشهر سوق للكتب القديمة، الذي عاش منذ سنوات خلت مجدا جعله محجا لكل المثقفين والكتاب والمكتوين بنيران الحرف من مناطق مختلفة من المغرب. 
ولفظ ” البحيرة” (بتسكين الباء وفتح الحاء” وفتح الراء يعني باللسان العامي المغربي حقل البطيخ الخصب كما يعني بستان اشجار الفواكه المثمرة). هذا السوق اليوم يقاوم عوادي الزمن ومزاحمة التكنولوجيا التي حولت منابع المعرفة والمعلومة من الكتاب الورقي إلى العالم الافتراضي. حاليا هذا السوق يحتضر ويبكيه كل من قصده يوما ونهل منه، حين كان مزودا سخيا للمعرفة ومساهما كبيرا في تثقيف أجيال سابقة وبأقل كلفة. اليوم أصحاب محلات بيع الكتب المستعملة بـ”سوق البحيرة” باتوا يستشعرون خطرا داهما نحو سوقهم العريق يخافون أن يقضى عليه وهم الذين ربطوا معه علاقة متينة تمتد لسنين طوال حتى أصبح جزءا منهم وأي نهاية له تعني نهاية لهم وقطع الأرزاق عنهم وتشريدا لهم ولعيالهم.
*يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر
حينما تأخذك الخطوات إلى سوق “البحيرة” للكتب المستعملة بالدار البيضاء يلفت انتباهك عناوين متنوعة في مجالات متنوعة وبلغات مختلفة. فهنا تجد الكتب الثقافية والتاريخية والسياسية والدينية وروايات ودواوين شعرية وكذا مقررات مدرسية لكافة المستويات وخاصة الفرنسية التي يبحث عنها الآباء من أجل تحسين مستوى أبنائهم. إلى جانب أن غالبية المدارس الحرة(الخاصة) تتنافس في تقرير كتب فرنسية كوسيلة ذكية لإبداء تميزها وبالتالي جلب أكبر عدد من المسجلين بها، ومن ثم فإنها تطلب من المنتمين اليها كتبا تساير البرنامج التعليمي الفرنسي. وما دام أن سعر هذه الكتب والمقررات مرتفع. فإن الآباء من الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود وكذا الأساتذة يقصدون سوق “البحيرة” للحصول عليها وبثمن معقول مقارنة مع الجديد منها الذي يباع في المكتبات بأثمان باهظة.
هنا في هذا السوق يجد الزائر بغيته فكل واحد يحصل على ما جاء من أجله، لكن بالرغم من ذلك فإن “البضاعة” لم تعد متوفرة كما كانت منذ سنوات عندما كان السوق يعيش أحسن سنوات مجده. 
أحد التجار صرح لنا حينما سألناه عن حال السوق بين الأمس واليوم :” لقد كان الناس يأتون من أماكن مختلفة، كما أن الكتب كانت مطلوبة، حقيقة كانت التجارة رائجة وكان الجميع راض وفرحا، المشتري يحصل على ما جاء من أجله، والبائع يبيع بضاعته ويحصل على هامش لا بأس به من الربح. لكن اليوم تراجع الطلب على الكتب المستعملة”، ويستدرك هذا التاجر الذي كان يجلس بباب دكانه المكدس بالكتب في انتظار زبون محتمل:” أعتقد أن تراجع الإقبال ليس مقصورا على الكتب المستعملة فقط وإنما أيضا على الكتب الجديدة”، ويعزي تراجع الإقبال على الكتاب عموما إلى انشغال الجميع بالتكنولوجيا الجديدة ، حيث صار المواطن يحصل على أي كتاب وبأي لغة وفي أي مجال فقط بضربة زر على الكومبيوتر، وبدون مقابل، وبدون حتى أن يكلف نفسه عناء التنقل إلى المكتبات” لقد تغير الزمن فعلا ونحن فقط نعيش على الذكرى الجميلة” يختم بائع الكتب المستعملة بـ”سوق البحيرة” .
الكاتب والأستاذ الجامعي شعيب حليفي تحدث لنا حين سألناه عن حضور “سوق البحيرة” في ذاكرته :” قبل أن أتعرف بالمصادفة على سوق البحيرة للكتب القديمة، كنت ما زلتُ تلميذا بمدينة سطات (تبعد عن الدار البيضاء بحوالي 50كلم)حينما عرفتُ الكتاب عند كتبي للكتب الجديدة وهو مكتبة الهلال لقاسم الهمداني ومكتبة في حي شعبي للكتب المستعملة وصرت أنهل منهما”.
ويضيف الكاتب شعيب حليفي “ولم أشرع في مباشرة مكتبة البحيرة بالمدينة القديمة – الدار البيضاء إلا وأنا في المرحلة الثانوية ، حيث عرفتُ صديقا ما زال هناك حتى الآن، كنت أجد عنده من الروايات ما يغريني بالرجوع الدائم إلى رفوفه التي كنتُ أعتبرها خزانة سحرية تحتوي على نفائس لم أكن أتخيلها . بالإضافة إلى النصوص الكلاسيكية ، باللغتين العربية والفرنسية ، كنتُ أصادف روايات صدرت في نفس السنة لكتاب مغاربة وعرب”.
ويعتبر الروائي شعيب حليفي ابن مدينة السطات “سوق البحيرة” علامة بارزة في ذاكرة القراء المغاربة عمل إلى جانب أسواق أخرى للكتب المستعملة على تزويد هم بالمعرفة بشكل مريح ماديا وترك أثرا لا ينسى. 
يقول صاحب رواية “زمن الشاوية” في هذا الإطار:”إن “سوق البحيرة” هو علامة في ذاكرة القارئ المغربي ، لا يختلف عن سوق الليدو بمدينة فاس العاصمة الروحية للمغرب( تقع وسط المغرب على بعد حوالي 300كلم) والقريعة بدرب السلطان ودرب غلف والمعاريف وأسواق ومحلات في كل المغرب للكتب المستعملة التي تحفظ للقارئ تداولا مريحا وجميلا يترك أثره في الحياة والذاكرة “.
ورغم المكانة المميزة التي لعبها “سوق البحيرة” في تثقيف البيضاويين ومحبي المعرفة بالمغرب فإن هذا السوق اليوم أصبح مستقبله غامضا ومهددا بالزوال. وعلى ذلك فقد هب الكتبيون بالدار البيضاء إلى التكتل في إطار جمعية من أجل الدفاع عن استمرار وجود هذا السوق وغيره.
وقد صرح يوسف بورة رئيس جمعية بائعي الكتب المستعملة والتي تنظم سنويا معرضا للكتب المستعملة بساحة السراغنة بدرب السلطان أعرق أحياء مدينة الدار البيضاء، ويحضره كتاب ومثقفون من مختلف جهات المملكة حينما سألناه حول المصير الذي ينتظر “سوق البحيرة” الشهير :” هذا السوق من أقدم الأسواق وهو إلى جانب أسواق أخرى للكتب المستعملة الموجودة بالدار البيضاء مثل ” سوق درب غلف ودرب السلطان والشطيبة مصيرها غامض فكلها مهددة بالزوال؛ وذلك لأنها توجد على أراضي ترجع ملكيتها للدولة، وهكذا فإن مطلب جمعيتنا هو تخصيص سوق جديد يضم جميع بائعي الكتب المستعملة بمدينة الدار البيضاء، وذلك للإبقاء على الحضور الرمزي لهذه الأسواق التي تعد إحدى العلامات البارزة في ذاكرة كل القراء وطالبي المعرفة ليس في الدار البيضاء فقط بل في كل المغرب” .
إذن أمام هذا الوضع هل يستطيع “سوق البحيرة ” كسب الرهان والانتصار على عوادي الزمن وهجوم الوحش التكنولوجي وبالتالي كسب الرهان في مدينة توصف بالمدينة الإسمنتية لكونها اهتمت بالعقار/البناء أكثر مما اهتمت بالإنسان وحقه في فضاءات للمعرفة والبهجة وإشباع نهمه الروحي؟ الأمر متروك للمستقبل و لمدى وعي المسؤولين في تسيير شؤون الدار البيضاء المدينة الغول بأهمية هذا المعطى في حياة سكانها.
____________
*صحفي وكاتب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *