وجوه بيكاسو الغاضبة والشرسة



*د. عمران القيسي


في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1881، وفي مدينة «ملقا» الإسبانية ولد «بابلو رويث بيكاسو» Pablo Ruiz Picasso، والدته ماريا بيكاسو لوبيز كانت ذات شخصية مسيطرة، فيما والده خوسيه رويث المولود عام 1818 والمتوفى سنة 1913، كان إنساناً عادياً يمارس مهنة تعليم الرسم للذين يرغبون في تطوير مقدرتهم الفنية. ولم يعرف أنه حاول أن يثبت وجوده كفنان، فالرجل كان حرفياً يمارس عملية تعليم الرسم فحسب.

ربما عايش بيكاسو منذ طفولته هذا الفارق بين شخصيتي الأم والأب، لذلك أصرّ على أن يلقب ب(بابلو بيكاسو) انتساباً إلى أسرة أمه، التي يقال إنها تعود إلى أصول عربية.
في العام 1891 وهو في العاشرة من العمر، كشف أمام والده عن بعض رسوماته، والمدهش أن الوالد حين وقع نظره عليها أصيب بدهشة فائقة، لكنه ربما فضل عدم تشجيع ابنه، لأن طريق الفن صعب ومتعب، لكن في العام 1895 وهو ابن الرابعة عشرة من العمر أصبح لديه دفتر مملوء بالرسوم.
وعندما قدم الأعمال التي أدهشت لجنة التحكيم في المعرض المدرسي الجماعي عام 1899، أصبح بيكاسو علامة من علامات الرسم الشبابي مطلع القرن العشرين.
لقد انتبه إليه العديد من كبار النقاد وأصحاب صالات العرض، فالشاب الذي بدأ منذ العام 1909 يكشف عن منهاجه التكعيبي في الرسم والنحت. اقتحم العالم الباريسي، وشاغب تشكيلياً على أكبر علامات الفن الفرنسي آنذاك (ماتيس) حين رسم عام 1907 لوحته التكعيبية الشهيرة (فتيات أفينيو) وهي التي سبق وتناولها انطباعياً الفنان (ماتيس).. وقد أتبعها بعمله التكعيبي الكبير (صورة امبريوس فولارد) عام 1910.
كان عمر بيكاسو 34 عاماً، حين صورهُ المصوّر الفوتوغرافي الفرنسي الشهير (بيار فيرجيل) في شهر شباط/فبراير عام 1915. وقد علق الفنانون على هذه الصورة بأنها الصورة المثلى للفتى الإسباني الذي يصلح أن يكون مصارعاً للثيران.
لكن هذا (المتادور)، مصارع الثيران الإسباني، بدأ يتعامل مع المنظور من وجهة نظر تفسيخية، بحثاً عن ذلك البعد الرابع الزماني الذي يزرع الحركة في السكون. فالخارج كما يراه «بيكاسو» ليس ثابتاً، بل هو متحرك ومتحول، وهو بفعل تكوينه المداري عبارة عن كتلة نرى وجهها المقابل فقط، فيما الحضور الحقيقي يتمثل بقوة وحضور كافة الأوجه. فالتكعيبية ليست لعبة تقسيم هندسي لشكل أحاله الفنان إلى حضور مكعب، بل هي تفسير باطني للبعد الزماني الذي تأكد وجوده، بعد أن نجح العلم بشطر الذرة واستخراج أكبر طاقة من أصغر خلية في الوجود.
إن التطبيق الأولي على الصورة التكعيبية سوف يأتي من عملية إلغاء المنظور المباشر للشكل وتدوين ما لا تراه العين تصويرياً بل هو موجود بالضرورة، ثم الوصول إلى العمق الخلاق للحالة الإنسانية. لهذا ابتعد عن منهاج «براك» التكعيبي المباشر، واقتبس من السورياليين قوة تناول عالم ما وراء الوعي، لكنه ركب هندسياً المنظور من زواياه قاطبة، شريطة، أن تأتي هذه الزوايا، كما تأتي الهندسة الفراغية في حيّز مكاني واحد، يتحكم به العنصر الزمني المتحرك، فهكذا رسم جدارية (الجرنيكا) عن الحرب الأهلية الإسبانية ليبرز إلى أقصى الحدود عمق الوجع الإنساني والحيواني عندما تنهد مدينة فوق رؤوس الناس.
في عام 1972 أي قبل وفاته بعام واحد. أراد بيكاسو أن يحدق بوجه العالم، وربما أن يمدّ لسانه بوجه العالم، فرسم صورته التكعيبية الأكثر رعباً والأعمق سؤالاً، حيث يقول عبر هذا التأليف الشرس: لقد أعطيتكم كل شيء، كل ما أستطيع أن أفسره لا الذي أستطيع أن أرسمه فحسب. لذلك لا أعتذر.
رسم عام 1969 ذاته في لوحة اسمها (القبلة) وكأنه هنا يرغب بمخاطبة صديقه النحات «قسطنطين برانكوزي» الذي لم ينحت غير موضوع القبلة.
إن صورة الشاب الغاضب التعبيرية الحادة التي رسمها عام 1897، لم تكن مقنعة تماماً، وكلما اقتربت منها وهي المعلقة حالياً في متحف بيكاسو في برشلونة ستجد أنها تنقل جزءاً من تكويناته الإسبانية السمراء، لكنه مع ذلك يفضلها على لوحته الذاتية التي رسمها عام 1896. لأنها كانت مسطحة ومهادنة. وهي تشبه الصورة التي يرفقها الطلاب مع طلباتهم للانتساب إلى صفوف الرسم، التعبير هنا لناقد إسباني معاصر.
لكن في العام الأول من القرن العشرين 1901 وفي باريس رسم بيكاسو ذاته بلوحة احتلت حجم 80×60 سم وهي موجودة حالياً في متحف بيكاسو بباريس، ولو حللنا هذه الصورة، لوجدنا فيها مدخلاً جاهزاً للوعي التكعيبي وذلك من خلال التركيز على الحالة التصادمية بين العتمة والنور.
لكن في عام 1907، وفي قمة وعيه التكعيبي سيرسم وجهه، عبر تسع ضربات شرسة ومباشرة، وببناء تكعيبي متكامل دفع بمعاصريه لأن يروا في الصورة درساً أولياً للأبجدية التكعيبية المتحركة.
إن بيكاسو في هذا العمل بالذات أراد أن يختبر المدى الاختباري أو التجريبي للتكعيبية الخارجية، ومدى تأثيرها على أي فكر باطني داخلي للتركيب التفسيخي للعناصر.
لقد منحته صورته هذه شرعية العمل على مواضيع عدة تناولت صور النساء والرجال التي تمّ تكوينها بشكل تكعيبي معمق، حتى عندما تناول صورة (امبرويز فولارد) عام 1909، وهي الصورة الموجودة حتى الآن في متحف «بوشكين» في موسكو فإن بيكاسو جعل من صورته الذاتية أنموذجاً ومدخلاً اختبارياً لموضوعي الحركة والزمان.
إن البورتريه الذي دون صورة الرسام عام 1967، كان عملاً ذاتياً، فالفنان عبر هذا العمل بالذات قدم خاتمة إنشائية – يقال إنها تشبه نهاية المحاضرة – عن موضوع البعد التكعيبي في الصورة وقضية حضورها الوجودي.
وهل انتبهنا إلى صورة مصارع الثيران – El Matador- التي أنتجها بيكاسو في 14 أكتوبر/تشرين الأول عام 1970، وهي الموجودة حالياً في متحف «بيكاسو» في باريس. إنها صورته أيضاً، حين رغب بالعودة إلى الجذور وارتداء ملابس مصارع الثيران بقبعته وسيفه وإكسسواره الجميل، وهنا حيث تتناثر المفردات والثيمات يتألف البعد التكعيبي للعمل. ليعلن بأن هذا الفنان كان يدوّن عبر صوره الذاتية سجله التشكيلي، ومفهومه للفن المعاصر، لأن بيكاسو أهم فناني القرن العشرين.
________
*المصدر: الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *