طلال حيدر..أسطورة حاضرة


اسكندر حبش

لا أعرف حقا، وفي العمق، إن كان طلال حيدر يحتاج إلى تعريف أو إلى تسويغات نقدية لتبيان مكانته الحقة، حين نذكر اسمه في حديثنا عن الشعر. شئنا أم أبينا، هو أحد الفرسان المميزين، والكبار، الذين استطاعوا نقل الشعر المكتوب بالمحكية إلى أماكن لم يعرفها أحد من قبل، عبر تجربته المتميزة في فضاء القصيدة، التي امتدّت على مرّ سنين طويلة.

وأسارع إلى القول، إننا نرتكب خطأ كبيرا حين نقول دائما إنه شاعر بالمحكية، فالنص الذي قدمه – برأيي – يتخطى هذه التصنيفات التي نلتجئ إليها دوما ما بين شعر فصيح وشعر محكي وما بين قصيدة وزن أو شعر نثر وما إلى هناك من تحديدات لم تكن في النهاية سوى إعاقات وضعناها أمام الشعر بوصفه هذه اللغة الإنسانية الكبيرة التي تحدد هذه الأخوة بين البشر. الشعر هو الشعر، أي يبقى دائما بعيدا عن أي تصنيفات أو مدارس أو لغات أو لهجات ومحكيات.
خيار طلال حيدر للغة التي كتب بها، لا بدّ أن تضعنا في مواجهة دائمة مع العالم المحيط بنّا، ربما لأنها «اللغة الوحيدة»، (إن جاز القول)، التي تتغير وتواكب هذا العالم المتغير باستمرار. ربما الفكرة هنا ليست سوى صدى لما قاله في مقدمة كتابه الثالث «سرّ الزمان» حين اعتبر أن هذا الخيار هو من أجل «هذا المجد لنظام شعري جديد يعيد خلق العالم»، فـ «اقترافه» (كما يقول) الكتابة «باللغة المحكية، (هي) لغة لم يعترف بها العرب بعد كلغة إبداع».
كلام طلال حيدر في مقدمته هذه، لا بدّ أن يجعلنا نقع على نوع من «أسى» يشعر به، بمعنى أننا لا زلنا ننظر إلى هذه القصيدة وكأنها ذات «مرتبة أدنى»، بينما هي في الواقع، ليست سوى شعر حقيقي، كنّا بحاجة إلى «قرار فعلي» لنضطلع به، ولنفرد له مساحة أكبر من حيث التعاطي معه، بعيدا عن الأفكار المسبقة.
أسمح لنفسي بالقول إنه كان محقا في ذلك، إذ تناسينا، في خضم «صراعاتنا المتنوعة» ـ ومن بينها صراعنا على اللغة ـ أن الشعر المكتوب بالمحكية، كان يمكنه أن يقدم مساحات أكبر للتعبير الشعري. وهي إمكانيات لا نستطيع أن نتناساها عندما نقرأ شعر طلال حيدر الذي يُفرد أمامنا مساحات واسعة لقصيدة، ترفض أن تقع أسيرة ذاتها، وإن بدت قوافيه متشابهة في بعض الأحيان. بيد أن هذا التشابه، ليس في الواقع سوى تدرجات يعرف أن يصنع منها الشاعر، في كلّ مرة، لونا مختلفا. وهنا تكمن صعوبة هذا القول الذي ينحاز إليه الشاعر، وهو قول لا يزال يفاجئنا ويترك عندنا فرحا من الصعب وصفه. على الأقل، هذا ما أشعر به كلما قرأت قصائده، جديدة كانت أم قديمة، من تلك التي عرفت كيف تتربع في أعماق ذاكرتنا، لتقيم فيها إلى الأبد.

هاجس الكتابة

طويلة هي الرحلة الشعرية والإنسانية التي قطعها طلال حيدر. رحلة، امتدّت على عقود طويلة، حتى بدت كأنها أصبحت في عُمر يشبه عُمر «الزمان» الذي غالبا ما يحضر في قصيدته. لكن، على الرغم من هذا الانطباع، إلا أنه في واقع الأمر، زمن شاب لم يُصبه الوهن بعد، فزمن قصيدة طلال حيدر – بالمعنى التقني للكلمة – يمتدّ فقط على مجموعات شعرية ثلاث، هي «بيّاع الزمان» (في سبعينيات القرن المنصرم)، و «آن الأوان» (في ثمانينيات القرن عينه) وآخرها «سرّ الزمان» منذ سنوات قليلة أي في الألفية الجديدة.
بهذا المعنى، يمكننا أن نقول إنه شاعر مقل بالنشر. فكما يردد دائما أن الكمية لا تعنيه بل تعنيه الحياة التي يقبل عليها «بكل شره»، إذ يحب أن يغزوها بكل جوارحه. بل يذهب إلى أكثر من ذلك حين يقول إنه فخور بكسله، إذ مثلما قال في حواره مع «السفير» (بتارخ 9 – 9 – 2011): «عادة، يسكن الشعراء هاجسان، الأول هاجس الكمية والثاني الانصراف عن الحياة إلى فعل الكتابة. أنا «فجعان» حياة، عندما يكون الدور لي لكي أغزو الحياة، أكون ملتهيا بالغزو فأضع الشعر في ضاحية الانتظار. عندما يأتي الشعر ويسكنني، أضع الحياة بانتظار الشاعر. ولا مرة سكنني هاجس الكمية، لأننا إذا نظرنا إلى تاريخ الشعر، لوجدنا امرأ القيس الذي لا يزال حيا من 1400 سنة تقريبا، وقد كتب فقط 25 قصيدة».
من هنا، وبرأيه ليس «المهم كم نكتب، المهم ماذا نكتب. هناك الكثير من الشعراء، يمرّ في شعرهم الكثير من الكلام، إذا «صفيته»، يبدو عدد قصائدهم على عدد أصابع اليد الواحدة، غير الكاملة الأصابع». هذا الكلام ليس في العمق سوى «نقد» للشعر، بمعنى أن الشاعر هنا يمتلك نظريته النقدية التي تحيلنا إلى اعتبار أنه لو لم تكن هناك بين قصيدة وأخرى هذه المسافة الضرورية التي تتمتع بقول جديد وبرؤيا مختلفة وأن تقود إلى فضاء مختلف، فلا داعي لأن تأتي الكلمات لتضاف إلى بعضها البعض، بل على كل قصيدة أن تأخذنا في زيارة اكتشاف لجديد يبحث عنه الشاعر دوما.

سرّ شعري

لو استعرنا عنوان مجموعته الأخيرة «سرّ الزمان» لوجدنا أنها تقودنا ربما إلى «سرّ شعري». ما أريد قوله إن طلال حيدر يبدو في كلّ ما كتبه وكأنه آخر الخارجين من قمقم عائد إلى أسطورة غابرة، لكنها أسطورة حاضرة، حيث لم يتأسس هذا العالم سوى على أساطير تملك أيضا منطقها الكبير. هذا المنطق هو الذي أتاح لقصيدة الشاعر أن تحضر بقوة في المشهد الشعري الراهن، ولا نبالغ لو قلنا إنه إذا كان ميشال طراد قد استطاع أن يحول الكلام، في ما كتبه، من زجل إلى قصيدة، فإن أهمية طلال حيدر تكمن في أنه ذهب بهذه القصيدة، إلى أن تكون شعرا حقيقيا «أعاد خلق العالم»، عبر مفردات بسيطة: من «البُن» و «حب الهال» و «خيط القصب»، و «ريحة الشتي»، وما إلى هنالك من مفردات، تبدو كأنها حكرا عليه، أقصد لدرجة انتباه نصه إلى هذه المفردات، استطاع الشاعر أن يخرجها من «القاموس» العام لتدخل في قاموسه هو، أي أن كلّ قصيدة مكتوبة بالعامية، تحاول الالتفات إلى هذه المفردات، لا بد من أن تجعلنا نقول إنها طلال حيدر، ولا أعتقد أن ذلك بالأمر الهيّن.
لا أعرف إن كنا لم نعترف بهذه اللغة، لكن من المؤكد أننا لا نملك سوى الاعتراف بهذا الشعر. إذ من الصعب تخطيه.
لنقل هي تحية صغيرة لطلال حيدر. تحية تترافق مع التكريمين المقامين للشاعر في بيروت وبدنايل، الأول في السادسة والنصف من مساء اليوم الجمعة بدعوة من «نادي اليونسكو» في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) و «الجمعية اللبنانية للتعايش والانماء»، تحت عنوان «منارات بقاعية» (مع المطران كيرلس سليم بسترس) وذلك برعاية وزارة الثقافة ومؤسسة الوليد بن طلال وبلدية بعلبك، (على اوديتوريوم اروين). أما الثاني فيوم الثلاثاء المقبل في 9 الحالي، السادسة مساء في «حديقة الأفراح – بدنايل»، وقد دعا إليه «نادي المشعل الثقافي الرياضي الاجتماعي» وبرعاية وحضور وزير الثقافة ريمون عريجي.

عن جريدة السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *