المقابل بعد الدفن


*عبد الرحيم التوراني


خاص ( ثقافات )
في غرفة بالطابق الثالث لبانسيون صغير ، بالمدينة القديمة، في صباح بارد، اكتشفت المنظفة جثته، وجدته ملقى على الأرض كالنائم. صرخت مرتعبة من جحوظ عيني الميت الشاب، وسقطت مغمى عليها.
“مقطوع من شجرة”، “لا يعرف له أصل ولا فصل”..
هكذا وصف صاحب الجثة، لا أحد يعرف عنوانا لأهله، ولا هو تكلم مرة عنهم أو عن المنطقة التي ينتمي إليها، لا أصحاب ولا أصدقاء لديه.
كان حظه جنازة جد بسيطة حضرها اثنان، حارس زنقة البانسيون وفقيه متطوع، “كفن غريب”.
في الغد جاء عدد من الأشخاص، قيل إن بعضهم يمثل مصالح البلدية وإدارة الضريبة ووزارة الأوقاف وطبعا البوليس.
أجروا عملية جرد لممتلكات ساكن الغرفة رقم 5 بالطابق الثالث، المتوفي وفاة طبيعية إثر سكتة دماغية يوم كذا.. في شهر كذا .. سنة كذا ..في الساعة كذا.. والدقيقة كذا… 
أقفلوا على الأشياء المجرودة في صناديق كرتونية وختموها بالشمع. وأخذوها معهم.
تقول المنظفة الشقراء البدينة التي اكتشفت جثته أولا:
– ماذا ترك المسكين؟
لم يترك شيئا…
تنقصه بعض الأزرار. ترك حاسوبا من نوع HB.
قميصين أو ثلاثة. أربعة سراويل، أحدها جينز أزرق باهت. بذلة غالية قاتمة، ربطات عنق ملونة. قبعة بالية.. حذاء جديد،
فرشاة أسنان وأدوات حلاقة.. ربع زجاجة عطر رجالي.. 
جرائد ومجلات قديمة، مع روايات مترجمة ودواوين بالفرنسية لشعراء مغمورين..
محفظة جلدية وحقيبة كرطونية.ثم ماذا؟
آه..
وساعة يد روسية.. حزمة رسائل ومخطوطات غير واضحة… ملصقات لصور لا أعرف أصحابها ولا من هم. أحدهم كانت صورته تفزعني، له شعر كث غزير ولحية شعثاء كلحى قدماء اليهود.. الله يسمح لي…
نسيت أن أذكر لك ألبوم الصور.. صور جميلة بالأبيض والأسود وبالألوان أيضا.
– فقط؟ هل هذا كل ما ترك المرحوم؟
تململت البدينة في مكانها، قوست حاجبيها المحفوفين وسألت بتدلل:
– ولماذا تسألني كل هذه الأسئلة، هل أنت من أقربائه..
– مجرد فضولي إن شئت. أنت حرة في الإجابة من عدمها.. 
تطلعت في ملامحي بغنج زائد، وقالت لي:
– أتعرف.. فيك شبه منه. الله يرحمه.. سأبوح لك أنت فقط، لقد ترك العياشي، وهذا هو اسمه إن كنت لا تعلم، هاتفا محمولا جديدا من نوع “سامسونغ” بشاشة عريضة.
ثم تحسست بيدها ما بين نهديها وأضافت:
– أخفيت الهاتف عن اللجنة، اعتبرته هدية منه إلي. كان المرحوم قد وعدني بهدية، كنت أروح عنه بين وقت وآخر، حسب الظروف. لقد حققت أمنيته ووعده.
________
*قاص من المغرب 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *