*أحمد الشيخاوي
خاص ( ثقافات )
“ناطور الدجى ” للشاعرة آمال عواد رضوان
على غرار زخم باذخ من قصيد منجز ديدنه انتقاء مفردة المزج بين الإيديولوجي والجمالي، قد تُثمل جوارح المتلقي نكهة مضاعفة لمجرّد قراءة أولية،حدّ ولوج غيبوبة محرّضة على اقتحام المحال المتلبّدة به ذات متشبّعة بترف الوعي النرجسي وعاشقة للتمرّد على راهن مثقل بدياجيره وهائم في بهلوانية مبكية ، ناهيك عن مقاربة لبّ المعلومة و اصطياد معاني ما وراء ألوان نص أشدّ غواية كالذي يولد في لحظة كبرياء وعنفوان أنامل شاعرة متمرّسة من طراز آمال عواد رضوان.
إنها عصارة التجربة كما تقترحها تقنيات الإشتغال على المصطلح المهجور ونقله من ضوضاء لا طائل منها، إلى مستويات فوق كلاسيكية تمكينا له وتفجيرا لموسيقى روحية دفينة تشاكس لكي تنسج ملامح ارتدادات صوت الخصوصية والمواكبة والتميّز.
ظِلاَلُ ثُقُوبِكِ تَيَقَّظَتْ مِنْ مَكَامِنِهَا
تَتَجَنَّى عَلَيَّ
تَعَرَّجَتْ
فِي أَزِيزِ سَقِيفَةٍ مَتَأَهِّبَةٍ لِلْمَشَاكَسَةِ
لكِنَّهَا تَرَهَّلَتْ ذَائِبَةً
عَلَى مَرْمَى صَهِيلِكِ الْمَوْشُومِ بِالنَّدَى
وَمَا فَتِئَتْ تَدُكُّ
أَمْوَاهَ نَارٍ انْتَصَبَتْ أَطْيَافًا
عَلَى رِمَالِ الآهِ
وَمَا هَجَعَتْ!
خبء هذه الفسيفساء الآسرة يشفّ عن عوالم متعارضة ومتضاربة تحتويها النفس المجهولة والعاكفة على ظلمائها ، فيما الناطور هو ذلكم المخلوق الأسطوري بظلاله المثقوبة وبتجنّيه وبصهيله الندي أيضا.
ذلكم الناطور كمخاطب مغرق في فعله الرمزي وبطقوس الجلد التي يمارسها عند حدود المسكون بازدواجية البوح المتمنعة على السقوط في الحالة المرضية إذ تحاكي أنوية تضخيم المعاناة والتلطّخ بصديد تقرّحات الآه.
نَاطُورُ الدُّجَى
بَاغَتَنِي بِإِفْكِ طُقُوسِ تَسَكُّعِهِ الْمُتَطَفِّلِ
خَلْفًا دُرْررررر … اسْتَدِرْ حَيْثُكْ
أَنْتَ وَغَدُكَ الْفَضْفَاضُ فِي غلاَلَتِهِ
بَدِيدَانِ.. رَمِيمَانِ!
تتسارع مؤشرات الإثارة والإدهاش كلّما توغلت شاعرتنا في سردية متكئة على الصنعة الضرورية بذات القوة الصوتية المتولدة عن حمولة نفسية تتقاذفها هواجس استشراف المستقبل مع الإخفاق في محاولات الفكاك من إملاءات العدمية التي تتوعد المصير البشري عموما/ ثيمة الفناء.
كضرب من تسييج مواصفات هذا الناطور وجعلها أكثر هلامية عبر ما يفضح المكنون ويعرّي الذات ويرسم اتجاهات التوحّد المخوّل لامتصاص الأزمة على نحو أدقّ و أشبه بمعجزة.
اُنْظُرْكَ .. لَبْلاَبًا مَنْسِيًّا
لَمَّا يَزَلْ يَكْتَظُّ بِالْقَيْظِ
فِي صَحَارَى مَاضٍ .. تَحَلْزَنَ بِالْحُزْنِ.
هكذا يتم استهلال هذه الوحدة العضوية البديعة، بأغرب فعل أمر دال على عرض الذات على مرايا الآخر بالتّماس مع موضوع ما و ضمن سياق مجازي كنتيجة له عدم بروز الذات كنسخة لهذا الآخر.
هَا ضَفَائِرُ نَخْلِكَ
الْتَهَبَ فَجْرُ تَمْرِهَا
فِي سَرَاوِيلِ دَهْرِ ضَارٍ
ونَشِيدُكَ الْخَاشِعُ
كَمْ شَعْشَعَ مُتَفَيْرِزًا
مُرَفْرِفًا
هَا قَدْ شَاطَ نَبْضُهُ
عَلَى جُسُورِ تَلَعْثُمٍ مُتْخَمٍ بِالتَّفَتُّتِ!
تكثيف رهيب للصور الشعرية وانزياحات بالجملة واختزالات بمنأى عن العشوائية للمعنى المشدود إلى مناخات العنونة أو الفكرة الأم،عبر الإسراف في توظيف المصطلحات ذات الإيقاع الهامس وصارخ الوقع في آن ،الشيء الذي يمنح عملية التلقي طاقة إرباكية وجمالية ترتقي بالذوق.
يَا أَيُّهَا الْبَحْرُ الْعَارِي
مِنْ مَوْجِكَ الْوَثَّابِ
أَلْقِ مَا بِرَحْمِ تَبَارِيحِكَ
مِنْ أَصْدَافِ مُحَالٍ
لَمْ تَكْتَمِلْ بِمَعْبُودَتِكِ!
صيغة مناداة معبّقة بأسلوب الإجلال والتهويم،لاستحضار البحر عاريا متجردا من ضبابيته وغموضه وهيبته ،مشرع الأسرار باعتبارها القاسم المشترك بين الذات الشاعرة هنا والمكون الطبيعي، ومن ثم الإسقاط على الناطور تماهيا مع هلامية توصيفاته وإمعانا في رمزيته، إسقاط تلكم المنظومة الخفية مما يناوش القلب والعقل على حد سواء،ويذكي وسواس الإعتقاد بها والمشوب بالقلق والشك ، تقنّعا بشخصية تقدّس المحال والخارق.
أَيَا سَاهِيَ الْقَلْبِ
هَوًى.. هَوَسًا
كَمْ يَقْتَاتُكَ يَمُّ الإِسْهَابِ
وَتَتَدَلَّهُ وَاجِفَا!
مَرَايَا عَزَاءٍ .. تَوَعَّدَتْكَ مُقَهْقِهَةً
أَشْعَلَتْ أَدْغَالَ أَضْلُعِكَ بِالإِعْيَاءِ
وَاسْتَنْزَفَتْ أَغَارِيدَ قَلْبِكَ النَّحِيلٍ!
لِمَ حَبَّرَتْكَ زَمَنًا بَهْلَوَانِيًّا
شَفِيفَ وَحْدَةٍ
كَسِيفَ تَرَنُّحٍ
عَلَى حَافَّةِ مَعْقَلٍ مُعَلَّقٍ؟
بعد إسراف المخيال في تصوير كاريزما الناطور حدّ تخليق بواعث تمجيده، يتم شحن جسد النص بالدلالات المبددة لانطباعات انفصال هذا المخلوق الغرائبي عن الذات الشاعرة،وعزف اللحن الوجداني المحيل على تجليات القرين.
*شاعر وناقد مغربي