تونكي دراخت:ولدت لأروي قصص أطفال خرافية


فاتن صبح


«الذاكرة هي المَعين الأول الذي يغرف من خيره الفنان. لا توجد ذكريات من دون ذاكرة، بغياب الذكريات نحن لا أحد، مجرد نكرة». هكذا تلخص كاتبة قصص الأطفال الهولندية تونكي دراخت تجربتها لصحيفة «غارديان» البريطانية من على حافة سريرها في مأوى لاهاي، حيث تلفها بطانية كطائر ضعيف.

تتنقل دراخت بين الهولندية والإنجليزية قبل أن تغدو مرهقة من الاهتمام الإعلامي بها، وتعتبر أنه يوجد دوماً مكان خلف الأبواب الموصدة، على المقلب الآخر، وطالما أن الباب موصد، فلن نتمكن من معرفة ماذا يوجد خلفه. أما عن المصدر الذي تستقي منه رواياتها فتشير إلى المقلب الآخر من الباب.

كُسرت اللعنة أخيراً، لتصل إبداعات تونكي دراخت القصصية الطفولية، بعد 52 عاماً إلى بريطانيا. وهو حدث غمرت فرحة حدوثه تغضنات وجه دراخت الذي تحمل تجاعيدها علامات سنّيها الأربعة والثمانين، فتبتسم برضا الناضج وفرح الطفل، وتقول: ” أجل، أنا راضية، راضية بالفعل.”

وأخيراً تم الأمر، وربما تسلك بقية القصص الطريق ذاتها، من يعلم؟ يسعني أن أحلم، أليس كذلك؟ ينبغي أن أبقي عقلي منشغلاً قليلاً علّي بذلك أنسى وهن جسدي. إنه دوماً أمر جيد أن يكون لديك ما تتطلع إليه».

تعترف تونكي دراخت بفضل تلامذتها «المتعِبين والثرثارين» على حد قولها، في إقدامها على سبر غور الكتابة في لاهاي خلال خمسينيات القرن الفائت، وتصف بداياتها بالقول، إنها اكتشفت أنها تملك المقدرة على جعل طلابها يصمتون لحظة تبدأ بالقص على مسامعهم رواية كانت تخترع أحداثها تاركةً لمخيلتهم رسم صورها وتلوينها. وتبتسم وهي تقول: «وكانت تلك بداية مسيرتي المهنية ككاتبة قصص أطفال».

وتتابع دراخت مسلسل ذكريات فترة التعليم : «بدأت ذات مرة أخبر الأولاد قصة صبي فتح الباب لدى سماعه طرقات خفيفة وطلب استغاثة موجوع. اخترعت اسم البطل وجعلت في يده رسالة يسلمها، بلا أن تكون لدي أدنى فكرة عن محتواها أو كيف سينتهي بها الأمر. كان ذلك في آخر يوم من الفصل الدراسي، وكان الطلاب يصغون بأفواه مفتوحة انشداهاً، ثم جاءت العطلة الصيفية، وبدأت أستفيض بتفاصيل رواية ولدت باسم (رسالة إلى الملك)».

محاولات وبدايات

انطلقت دراخت  في عالم الكتابة قبل ذلك بكثير، حيث تقول: « اكتشفت أنه بإمكاني كتابة القصص في معسكر الاعتقال، حيث كنت أكتب القصص لأصدقائي، القصص المليئة بالأبطال من السجناء الذين تمكنوا من الهرب. وكانت تلك المرة الأولى التي أخط فيها قصصاً خاصة بي. لم يكن من كتب هناك، فحاولت أيضاً الرسم في الرمال وعلى الجدران.. لم يكن هناك من أوراق».

قبعت دراخت وأختاها ووالدتهم في معسكر يضم عشرة آلاف شخص من النساء والأطفال، في حين كان الوالد معتقلاً كأسير حرب في معسكر آخر، وقد عثر عليهم بعد إحلال الهدنة مستعيناً بالصليب الأحمر. وتذكرت دراخت تلك الفترة قائلةً: « لم نكن نعرف خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب ما إذا كان والدي حياً أو ميتاً.

كان يتعين على جميع أصحاب البشرة البيضاء البقاء في المعتقل باعتبارهم العدو. وكان الوضع داخل المعتقل أكثر أماناً من الخارج، وعلى الرغم من أنه لم يكن يوجد ما يكفي من الطعام هناك، وكنت أشعر بالجوع الشديد، لكن الجوع كان منتشر أينما كان».

وتقول: لم تكن الفانتازيا تدخل في حساباتهم لأنها كانت تعتبر نوعاً من الكتب المجنونة الحافلة بالفرسان المعتوهين أصحاب الأسماء الغريبة».

لطالما كانت دراخت معجبةً كثيراً بالتقليد الإنجليزي لأدب الفانتازيا، إلى درجة أنها حين قرأت كتاب «سيد الخواتم» للمؤلف تولكيين لم تتمكن من الكتابة لمدة ستة أشهر كاملة، مخافة أن يتأثر أسلوبها بكتاباته. وقالت: « حاولت مرةً أن أكتب قصةً واقعية جداً.. فبدأت أروي حكاية صف مدرسي ينتقل طلابه في حافلة إلى مكان ما، ثم ما لبث هؤلاء مع انتهاء الفصل الثاني من الحكاية أن بدؤوا بالطيران، تلك هي الطريقة التي يعمل فيها دماغي! أن راوية قصص خرافية.» وأضافت بحزم واضح: « هكذا ولدت ولا أستطيع فعل شيء حيال ذلك».

تشعر دراخت، التي لا تزال تتلقى من الأولاد رسائل ممهورة باسم بطلي روايتها تيوري وبياك بالتواضع إزاء الجاذبية المستدامة لروايتها وتتساءل قائلة: «هذا جنون، فالرواية قديمة جداً في عدد من جوانبها، فهي لا تتقيد بزمان أو مكان، وتنتمي إلى عالم الفانتازيا العائدة للعصور الوسطى. إنها نوع من القصة البدائية البسيطة جداً».

«رسالة إلى الملك».. إحساس عميق في عالم خيالي

أدرك آدم فرويدنهايم، صاحب دار نشر بوشكين المتخصصة بقصص الأطفال المترجمة، أن بحوزته مقتنى ثميناً، حين «تسلل ابني ماكس إلى غرفة نومي وسرق الصفحات المئة والخمسين الأخيرة من رواية (رسالة إلى الملك) ليكملها بنفسه».

كيف لا، والرواية حصدت ثناء أبرز المرجعيات النقدية. فوصفتها كل من «تايمز» و«صنداي تايمز» البريطانيتين بـ«المبهرة الاستثنائية» و«رواية لا تمل من قلب أوراقها». في حين وصفتها صحيفة «مترو» البريطانية بأنها «ملحمة تدق لها القلوب وينتشي مدمنو الفانتازيا بقراءتها من الصفحة الأولى».

تطبع أعمال دراخت سمة الثنائية الطاغية، المتولدة أحياناً من المزج بين عوالم مختلفة، وتزاوج مشهديات قائمة على المقارنات، فيخيل للقارئ أنه أمام مرايا عاكسة للأحداث، تؤكد أن أكثر من شخص واحد يعيش في كل كائن بشري من شخصيات دراخت.

كثيراً ما تستعين دراخت بعناصر من الأساطير والخرافات، وترتكز رواياتها بشكل أساسي على بطل، أو بضعة أبطال ذكور غالباً ما يكونون في سن المراهقة، فيمضون في رحلات بحث شخصية، ويخوضون مغامرات استكشافية تعلل كينونتها عناصر تتجسد بوجود الرسالة مثلاً في رواية «رسالة إلى الملك»، وتودي بهم في نهاية المطاف إلى الغوص في أعماق شخصيتهم وأبعادها ومكنوناتها.

تتعمّد رواية «رسالة إلى الملك» بإحساس إيماني عميق على الرغم من أن ميدان أحداثها يتوزع بين ثلاث ممالك تنتمي إلى عالم الإقطاع الخيالي..

وتتسم مملكتان من الثلاث، بالجمال والمثالية والتنظيم، خلافاً للمملكة الثالثة، التي تهدد سلام وأمان الأخيرتين. أما بطل الرواية، فمراهق في السادسة عشرة من العمر يدعى تيوري، ويميل إلى التفكير بأن رحلته المنتظرة تتخذ طابع الحج، فينطلق في مغامرته الاستكشافية أعزل.. مفلساً، بملابس رثة وغياب حصان يمتطيه.

صور ومعبد

تعرض المشاهد الأولى من الرواية صورةً من قلب معبد يضج بالصلوات، ويحتم على تيوري الانتظار فيه صائماً بانتظار ترسيمه فارساً في صباح اليوم التالي. لكن ماذا عسى المراهق أن يفعل حين يدق رجل غامض الباب مستغيثاً به في «مسألة حياة أو موت»؟ يقبل تيوري متردداً مهمة تسليم رسالة إلى الفارس الأسود صاحب الدرع الأبيض. وبما أن مضمون الرسالة فائق الأهمية ولأن الشاب قادر على تنفيذ المهمة قبل بزوغ الفجر والعودة لشرح موقفه، فهو يقبل بالذهاب.

توليف وجماليات
تسير توليفة الرواية بجمالية تتنقل بين الفقرات المستمدة إلهامها من حكايات الخيال وميثولوجيا الملك آرثر. ويلاحق تيوري عدداً من الشائعات، ويتعرض للاعتقال أكثر من مرة. حتمية إخفاء الرسالة عن أي مخلوق أبرز ما يطبع مسعى تيوري ربما، وتلعب على الرواية على وتر دفع «الأحداث» للتفاعل مع مجريات عالم الراشدين، بما يجعل القارئ يتحرق لمعرفة أشياء بغاية الأهمية، فيما نموه الذاتي محدود بمحدودية إدراكه للأمور.

خطر وتعويذات
تزخر مغامرة تيوري في «رسالة إلى الملك» بملامح آسرة مبهجة وصادقة، وتستكمل في رواية أخرى لدراخت حملت عنوان «أسرار الغابة»، حيث تتوالى فصول رواية السير تيوري وصديقه بياك تنفيذاً لمهمة خطيرة أخرى، حيث كبر المراهق وأصبح رجلاً ووقع في الحب.

تحكي التتمة المنصوصة بقلم دراخت وروحها قصة البطل تيوري المنطلق مع رفيقه بياك إلى قلب أكثر الغابات رعباً، حيث يرافقه الخطر في كل خطوة..فيواجه أقسى الاختبارات بحثاً عن فارس مفقود في عالم مظلم. وتيوري المراهق مهيأ ليكون هاري بوتر المقبل، حيث العمل جار على تحويل القصة لعمل تلفزيوني ضخم نقلت روايته إلى الإنجليزية المترجمة لورا واتكينسون.

شذرات
ولدت تونكي دراخت عام 1930، في مستعمرة الهند الشرقية الهولندية، مدينة جاكارتا الإندونيسية. وهي الابنة البكر لموظف حكومي هولندي. اعتقلت دراخت عام 1942 لثلاث سنوات بمعسكر ياباني لأسرى الحرب. وعادت إلى هولندا نهائياً وهي في عمر الـ 18، حيث درست في الكلية الملكية للفنون، وأصبحت رسامة ومعلمة. اكتسبت شهرتها ككاتبة هولندية شابة عام 1962 مع صدور روايتها «رسالة إلى الملك». وفازت عنها بجائزة القلم الذهبي لأفضل كاتبة شابة للعام.
——
البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *