منير عتيبة
عثرت مصادفة على نسخة من حوار كنت قد أجريته مع أستاذي وأبي الروحي المفكر الإنسانى خالد محمد خالد، ونشرته فى جريدة الأيام التى كانت تصدرها جامعة الإسكندرية ونحن طلبة فى العدد 210 يوم 21 يوليو 1991م.
تعجبت وأنا أعيد قراءة الحوار القديم الجديد، الحوار الذى أجراه الطالب فى كلية الآداب مع واحد من أكبر المفكرين الذين عرفتهم مصر إيمانًا بالديمقراطية ودفاعًا عنها، وكان مصدر إعجابي صلاحية الأسئلة والإجابات لواقعنا الحالي، وهو ما يشي إما بأننا لم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام أو أننا تأخرنا خطوات.
فعلاقة الكاتب بالسلطة لم تزل موضع سؤال فى زمن نرى فيه المتلونين من الكتاب والمشايخ يتلونون أمامنا على الهواء مباشرة، وعلاقة الحاكم بالديمقراطية أيضًا سؤال ملح الآن ونحن على أبواب انتخابات برلمانية ساخنة ومهمة يتم تمهيدها كى يعقبها تغييرات جذرية فى الدستور.
يرى “خالد محمد خالد” أن أي كاتب من أي اتجاه فكري أو سياسي يحدد علاقته بالسلطة منهج فكره وسلوك ضميره، فتراه ممالئًا ومداهنًا إذ كان فكره وضميره على درجة من الالتواء تجعله غير ملتزم بالقيم المُثلى التي يجب أن يلتزم بها الكاتب وضميره.
وتراه بعيدًا عن هذه الممالأة والمداهنة إذا كان معتزًا بفكره مهتديًا بنور ضمير لا يضل ولا يزوغ، ولا أعرف نوعًا ثالثًا من العلاقة بين الكاتب والسلطة، وإن كان هناك رخصة للكاتب الشجاع يستطيع أن يلجأ إليها أحيانًا دون أن يخدع القارئ وينافق الحاكم.
وإنها لصادقة تلك الحكمة التى تقول: “إذا خفت لا تقل، وإذا قلت لا تخف”. على أننا نجد في تعاليم سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، السمة لمن يريد أن يكون كاتبًا حرًا ومفكرًا رشيدًا، وذلك فى حديثه الشريف: “لا يكونن أحدكم إمعة. يقول إذا أحسن الناس أحسنت، وإذا أساءوا أسأت. ولكن ليوطن أحدكم نفسه إذا أحسن الناس أن يحسن، وإذا أساءوا أن يتجنب إساءتهم”، وعلى أيّة حال على الكاتب الصادق أن ينظر إلى نفسه فى غير غرور باعتباره رائدًا لا إمعة ولا تابعًا.
وعندما سألته عن علاقته بحكام مصر الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك، قال لى الأستاذ:
“منذ بدأت أكتب سنة 1950 وإلى يومنا هذا لا أذكر أننى نافقت حاكمًا أو خفت سلطانه أو بحثت لنفسي عن مكانة يمنحني إياها، وكان شعارى دائمًا – ولا يزال – قول ربنا عزل وجل: “ما مكَّنّي فيه ربي خير”، “ما أتاني الله خير مما أتاكم”، ثم عبارة قرأتها للمفكر الفرنسى الشهير فولتير فى مبتكر حياتي وتأثرت بها كثيرًا، وذلك إذ يقول: “لا بأس ألا يكون لي تاج ما دام معي قلم”.
وأحمد الله سبحانه وتعالى حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، فهو الذي هداني لهذا، وهو الذى أنعم علىّ بنعمة الاستقلال فى الرأي، والاعتزاز بالحق والقناعة والرشد، لقد عارضت عبد الناصر، فى بادئ الأمر، وكان يضيق بمعارضتي مع احترامه الشديد لرأيي، الأمر الذى عبر عنه فى حوارنا معًا فى اجتماع اللجنة التحضيرية حيث قال: “أنت الكاتب الوحيد الذى لم يمس أحد حريتك بسوء”، بل إنه بعد ذلك قال لصديقي الراحل فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري: “لقد كنت فى البداية أضيق بمعارضة الأستاذ خالد لأننى كنت أنتظر منه مناصرة بلا حدود للثورة، أما الآن فأنا أفضل خالدًا المعارض على خالد المؤيد”.
وعارضت الرئيس الراحل أنور السادات، وقلت له فى أحد مقالاتي المنشورة بجريدة “الشعب” قبيل حركة الاعتقالات الكبيرة التي أجراها في عهده، قلت له: “لأن تكون فردًا في جماعة الأسود خير للأمن من أن تكون قائدا لقطيع”. وعارضت الرئيس مبارك فى خطواته البطيئة على طريق الديمقراطية وقلت له: “إما أن نحيا معك فى ظل ديمقراطية كاملة وإما أن تموت معنا فى سبيل هذه الديمقراطية”.
سألت “خالد محمد خالد”: أنت شاهد على عصر ما قبل الثورة (ثورة يوليو 1952) وعصر ما بعد الثورة، فما الذي لكل منهما وما عليه؟
أجاب: في عصر ما قبل الثورة كان الإصلاح العمراني والاجتماعي والزراعي والصناعي بطيئًا بحكم الإمكانات الضئيلة التى كانت متاحة لمصر يومئذ، ولكن في المجال السياسي كانت حرية الشعب وحرية الفرد تتألق وتتلألأ، وتجعل من المواطنين جميعًا مواطنين بحق وليسوا لاجئين أو كاللاجئين فى أوطانهم.
وأضاف: وفي عصر ما بعد الثورة حدثت طفرة فى البناء والتعمير والإصلاح والصناعة والتعليم، لكن طُلب من الشعب أن يدفع ثمن هذا من أثمن ما يمتلك البشر وهي الحرية، فقد المجتمع حريته، وفقد الفرد حريته، ظنا من قائد الثورة يومئذ أن هذا الثمن ضروري لينجز الطفرة التي أراد تحقيقها، وما علم أن الحرية هى الأداة الوحيدة لكل نهضة رشيدة.
وعندما سألته عن صفات الحاكم الأمثل، قال: أذكر حكمة لفيلسوف إغريقي يقول فيها: “أفضل الحكام هو الذى لا يحكم”، وهو طبعا لا يريد بهذا تجريد الحاكم من سلطته، إنما يعنى أن يستخدم الحاكم سلطاته في أدنى حدودها، وألا يتزيد فيها، أو يطغى بها، فلا يشعر المواطنون به كوطأة ضاغطة وسلطة جاثمة، بل يشعرون به كصديق ورفيق وعادل وبر ورحيم، وبعبارة واحدة أقول لك إن الحاكم الأمثل هو الذى “يحكم” لا الذى “يتحكم”، وهو الذى يمارس “سلطة” لا “تسلطا”.
كان سؤالي الأخير هو: هل يمكن أن تتحقق الديمقراطية كاملة فى مصر؟ وكيف؟
وكنت أظن أنه سيقول كلمة واحدة، لا، وينتهى الحوار، لكنني فوجئت به يجيب: لقد تحققت فعلا، ومتى؟ أيام كانت مصر ترزخ تحت الاحتلال البريطانى، وتتلقى اللطمات من طغيان القصر الملكى، ومع ذلك فقد كان هناك “سعد زغلول”، إذا أراد الملك فؤاد أن يتحداه لم يزد سعد زغلول أن يقول له: “مولاى! إذن نستفتي الشعب”.
فيرتعد الملك فؤاد ويتراجع عن طغيانه، ويسلم لمطالب الزعيم الأكبر سعد زغلول التي هى مطالب الشعب كله. وكانت هناك أحزاب أقلية بعضها يعطل الدستور، وبعضها يلغيه، فيقوم الشعب كله على رأسه حزب الأغلبية “الوفد” ويهزم بالمظاهرات والخطب والمقالات رؤساء هذه الوزارات التى تعبث بمقادير الأمة ودستورها، وكانت باختصار كل مظاهر الديمقراطية السياسية متوفرة لهذه الأمة، ولهذا الشعب العظيم.
وإذا سألتني كيف نحقق اليوم الديمقراطية السياسية الكاملة كالتي ظفرنا بها فى ظل الملكية والاحتلال البريطانى على الأقل، أقول لك: نحقق ذلك بحاكم يؤمن بالديمقراطية وبشعب يفتديها بحياته.
—-
بوابة الأهرام