قصص قصيرة


يوسف زيدان*



لا مفر

الموجةُ ال أولى ارتمت على صدر الصخرة آملةً في الحصول على حضنٍ مريح، فلما لم تجده سالت على جوانبها، كالدموع، وانحسرت لتفسح مساحةً للموجة التالية الآملة مثلها في المستحيل.. وجاءت من الموجاتِ بعد الهادئاتِ العاتياتُ، وتتالتْ، ولكن الصخرةُ بقيتْ على حالها النافر من الحضن والتحنان، فسألها البحرُ عن سر استعصامها من موجاته واستعصائها عليها، وأعاد السؤال مراتٍ لا حصر لها. وبعد زمنٍ مديدٍ ملّت الصخرة من تكرار سؤاله مع الإجابة واضحة، فصرخت في البحر حتى سمعتها السماء، قائلةً له: إليك عني، فالاحتضانُ ليس من طبع الصخر، وموجاتك الحانية والعاتية تصيرني بالهوى والهواء فتاتاً لا قرار له، إلا بين رمال قاعك التي كانت يوماً صخوراً.
البحرُ لم يقنع بما سمعه، ولم تعجبه شكوي الصخرة، فظل يرسل إليها موجاته حتى استسلمت رويداً، وتشقَّقتْ، ثم صارت حصًي ورمالاً في قاعه.. وهناك نامت بين سابقاتها المسحوقات، المنسيِّ أصلُها. وعندئذٍ، أرسل البحرُ من فوره إلى الصخرة التالية، موجاته الآملة في الاحتضان المستحيل بين السائل والجامد.
■ ■ ■

افتضاح

في ساحة الإفصاح سألتُ مجذوباً كان يضحك قليلاً ثم يبكي كثيراً، قلتُ: هل استبشرتَ بالعام الجديد؟ فصار شرودُه ذهولاً، وحوقلَ، وحملقَ في اللانهائي، ثم أخذته نوبةٌ كتلك التي تأخذ المصروعين. ولما استفاقَ واستعادَ عقله المخبول، أجابني متهدجَ الأنفاس: كدتُ، لكنني انتبهتُ لحظة أدركتُ أننا في بداية العام 1954.
ففهمتُ من إجماله التفصيلَ، ولم أسأله بعدها عن أيِّ شيء، قط.
■ ■ ■

خُبثٌ خفيّ

من كوةٍ في جداًر البيت القديم، حيث كنا نتسامر بذكر أخبار القطب الجنوبي، المتجمّد. دخل علينا عصفوران وراحا يرفَّانِ في سماء الحجرة بأجنحة الوجل، فقام رجلٌ أخرقُ ليطردهما بمكنسة العرجون القديم، فلم ينطردا. قال أوسطُنا: أطلقوا عليهما النار لتستريحوا، فإنهما ما دخلا علينا إلا لغرضٍ خفيٍّ خبيث.
أسقطناهما صريعين، بطلقةٍ واحدة، واسترحنا. وبعد حينٍ نظرنا إلى أوسطنا متسائلين، لعله يكشف لنا السرَّ ويخبرنا بالغرض الخبيث الذي أراده العصفورانِ القتيلانِ، ونجونا منه. لكنه لم يُجِبْ، وإنما ظلَّ يتلفَّت إلى أنحاء السقف ثم زوايا الحيطان مُحتاطاً مما لا ندركه، وأطالَ الصمتَ حتى استطال ظلُّ القلقِ على الجدران من حولنا، وغلبنا النعاس.. لما صحونا وقد فاتنا ميقات الصلاة، صاح أحدنا بصوتٍ كالصراخ المختلط بالطحالب، قائلاً: يا قوم، الأشجارُ التي كانت العصافير تعشّش عليها قُبالة البيت وحوله، كلها اجتُثّتْ بالأمس من جذورها، فاختفتِ العصافيرُ من بلدتنا.
■ ■ ■

دوَّامة

البيتُ الذي سكنتُ غرفةً بأعلي سطحه، مُضطراً. في طابقه الثالث تسعُ صبايا، فيهنَّ مائساتٌ كأعواد الريحان، ومترهلاتٌ كأوقات الملل. وهُنَّ يتوهمنَ، لاهتياج هموم الهَنِّ واحتدام حَرِّ الحِرِّ، أنهنَّ يعشقنَ الصبيان الثلاثة، الساكنين بسكينة العِنّين في الطابق الثاني.. الصبيانُ من أجهل أهل الأرض، وأبرياءٌ حتى آخر المدي، ولم يحملوا قط المُدي. وهم يُحرِّمون النظر إلى أعلي، ويعشقون امرأةً فتَّاكةً تسكن في الطابق الأول، مع زوجها الذي يعشق عجوزاً شابَ وليدُها تعيش في جُحر البدروم التحتاني، منذ هلك أهلُها الغابرون.. في جُحر العجوز كرسيٌّ سحريٌّ، يُوهم الجالس عليه بدوام الاستقرار، مع أن قوائمه الخشبية متداعيةٌ ومليئةٌ بالسوس الناخر. ومَن يُديم النظر إلى الكرسيِّ يصيب ساقه عطبٌ، يُعطّله عن الصعود إلى سطح بيتنا البابلي، الذي يتكلم كل ساكنٍ فيه بلغةٍ لا يفهمها غيره.
المُضحكُ إلى حدِّ البكاء، بل العويل، أن حارس البيت وهو شيخٌ عاجزٌ طعنَ في العمر وطُعن عقله بمثقاب الخَرَف، يزعم أن لعنةً أصابت البيت من قبل عصر ما قبل الأُسرات.. وبسببها، تستحيلُ الهجرةُ منه، والهجرةُ إليه.
■ ■ ■

شغف

نظر المسافرُ خلفه ليلقي نظرةَ وداعٍ أخيرةٍ على قريته الكاذبِ أهلُها، قبل افتراقه النهائيِّ بلا أيِّ نيةٍ في الرجوع. كان الهواءُ الساخنُ المغبّرُ يُصعّب عليه سلوك الطريق، لكنه أصرَّ وواصل المسير حتى ابتعد، كأنه شاةٌ تهرب من ضباعٍ أهاجها الجوعُ.. بعد نهارات المشي وليلات السريان، وصل إلى أول الطريق المؤدي للمدينة التي يقصدها، بعدما استدام عنده حلمُ العيش فيها كإنسان، وزادت ثقته في أنه سيجد هناك الحبَّ والصدقّ متضافرينِ في محبوبٍ واحد.
لما أجهده المسيرُ جلس ليستريح، فوجد شخصاً قد أجهده المسيرُ فجلس ليستريح. بعد تردّدٍ بدَّده الجوارُ، وبعدما ربطت بينهما بعضُ النظرات العميقة. سأل المسافرُ جاره: من أين أنت، وما مقصدك؟ فأجابه: أنا من المدينة، وإلى القرية أسافرُ بعدما استدام عندي حلمُ العيش فيها كإنسان، وزادت ثقتي في أنني سأجد هناك الحبَّ والصدقَ متضافرينِ في محبوبٍ واحد.
■ ■ ■

وَهْم

الشابُّ الذي خرج من أرضه وارتحل طويلاً ثم سكن بهذه الدار الخَربة، شَابَ، ولم يجد بعد ما كان يريد.. أيامَ راهق البلوغ، كان يحلم بحبيبةٍ مُخلصةٍ يُنجبُ منها أطفالاً، فخرج ليبحث عن حلمه في أنحاء المدينة وتسكّع بالعَرَصَات حتى خطفته امرأةٌ بدينةٌ تبلغ من العمر الثمانين، فتزوّجها مُرغماً. في ليلة الزفاف عرف عنها أنها عاقر، وفي الصباح التالي للعُرس أخبره بالحقيقة طبيبٌ تحت التدريب، كان أستاذُه الفاجرُ هو الذي أجري للعجوز التي تزوّجته عنوةً، تلك الجراحة التي حوّلتها من رجلٍ إلى كائنٍ يشبه البشر، ليس هو برجلٍ ولا امرأة. فلمّا تحقّق الشابُّ من صدق ما بَلَغَه، أخذه الذهولُ ساعةً ثم استفاق، فتسلّل مهاجراً ليهرب من امرأته، ولكنه نسي في غمرة اضطرابه أن يُطلّقها.
رحل الشابُّ من بلاد الذهب الأبيض إلى بلاد الذهب الأسود، وأقام هناك حيناً وهو يحمل على ظهره قربة ماءٍ، كالسقّائين. وظل يدور على النواحي حتى التقي ذات مساءٍ، على ناصية الصحراء، بامرأةٍ شمطاءَ أخذت بناصيته واستولت على لُبّه، وأفهمته أن الجمال في الأرواح وليس في الوجوه والأجسام، فتزوّجها، ثم هام معها في أحلامه القديمة قبل أن يدرك أن أحلامه مستحيلات. وقد استفاق من الوهم ذات ظهيرةٍ، إذ عثر بالصدفة على صندوقٍ فيه أوراقٌ مكتوبٌ فيها بلغةٍ حديثةٍ أن امرأته الصحراوية الشمطاء، ليس لها ماضٍ وبالتالي فلن يكون لها آتٍ، ولحظتها ثاب إلى الرشد واستفاق فصاح في جوف الصحراء: لماذا هذا العذاب؟
جاوبه الهواءُ اللافح، بقوله: لأنها ليست أنثاك، ولأن الزيت لا يروي الظمأ ولن يمتزج يوماً بالماء، ولأن المغترب مضطرب لا يقدر على الإنجاب.. عندئذٍ صدمته هذه الدواهي، فعاد الشابُّ الذي شَابَ إلى دياره، ليجد امرأته العجوز الموتورة تُشعل في الأنحاء حرائق غريبة الاشتعال، كلما أُخمدتْ، استعرتْ من جديد.
الشابُّ الذي صار بلا دار، دار على القري يشكو حاله للناس عساه يجد عند سامعيه رحمةً، وأكّد لهم أنه تاب عن الحلم وما عاد يريد إلا لقيمات يُقمن أَوده ويحفظن حياته. لم يسمعه القرويون ولم يروه، لأنهم صُمٌّ بُكمٌ عُميٌّ، ولا يفقهون.. في منتهي مسيره، أعني عند السلك الشائك العتيق الذي يقف عنده حارس الحدود، التقي بحكيمٍ مطرودٍ من القُري، قال له: يا ولدي الحائر لا تعبر، فليس لك مقام في غير دارك الأولي. عُد إلى أرضك وعقلك وحلمك القديم، وتزوّج إذا شئتَ ابنةَ عمّك المليحة، فهي تحبُّك منذ الصِّغر لكنها لا تُفصح عن حُبِّها، لحيائها، ولخوفها من الخلاف القديم الذي جري بين أبيها وأبيك. واعلمْ يا جاهل، أنك مهما تعاميتَ وتصاممتَ وتخارستَ وتغافلتَ، فلن تنجو من حُكم القَدَر القاضي منذ الأزل، بأنك لن تُنجب من غيرها.
■ ■ ■

غباء

منذ سنين سحيقة، يُدرِّسُ قراءةَ القرآن في قريتنا، فقيهٌ ذو بشرةٍ تشبه الأبنوس وقلبٍ كالحليب. وهو إنسانٌ ماسيُّ الأسي، تبدو عليه من علامات الولاية آيات. ولسنوات فوّتها الفواتُ، جري حالنا على ذات المنوال، نحفظ في الصباح ما ننساه مساءً. حتى كان صباحُ ذاك اليوم الذي دخل علينا الدرسَ، صاحبُ البلدة. فزع الفقيهُ. ولكن، ولأننا لم نلحظ ما ألمَّ به، بقينا نهتزَّ أمامه مثلما نفعل دوماً في ساعة الحفظ، مقتدين من دون أن ندري بالذين يهتزّون من قبلنا، وهم أولاد عمنا المذمومين القرّائين.
انتبهنا من غفلتنا المغلّفة بالتلاوة، لحظة قال صاحبُ البلدةِ للفقيه: أقرئهم الفرقان، فقد اكتفوا من القرآن، ولا تتوغّل بصغارهم في الفهم ولا بالكبار، كيلا يصيبهم من وفرة الخير الخبلُ والبَطَرُ فأكون على ما يفعلون من النادمين. فقال له الفقيه: السمع يا سيدي، والطاعة.
ولما سألنا الفقيه بعد الدرس، مستغربين: ما سرُّ خنوعك وخضوعك وسمعك الدائم وطاعتك؟ قال: وهل خفي عليكم السببُ الواضح، الفاضحُ للحقيقة المُطلقة القائلة إن صاحب البلدة، يعني صاحب الأمر والنهي، والأرض والعرض، وأرواح الناس، وسلاح الحراس، وأجراس الكنائس، ومنابر المساجد، والكتب التي منها تقرؤون القرآن والفرقان.
■ ■ ■

حُور

في اللحظة الفارقة التي سيبدأ فيها الهجومُ، هبَّ عليهم هواءٌ باردٌ سري بين أعشاب الأرض ووجوههم لثوانٍ كانت قليلة، لكنها كانت كافيةً لإثارة بشائر النصر في نفوس جماعة «عساكر الله» الذين يريدون تصفية جماعة «أجناد الله» عن بَكرة أبيهم وجدّهم الأول المشترك، لأنهم خانوهم وتحالفوا مع جماعة «جند الله وعسكره» المتحاربين مع جماعة «عسكر الله وجنده».. وهذا الهجومُ، بإذن الرحمان، سيكون حاسماً للأمر على مدى ساعتين كاملتين، أو ثلاث، حسبما قال أمير الجماعة لآمر المجموعة المجاهدة التي خرجت تحت ستار الليل للنيل من أعداء الله وأحبّاء إبليس.
في الصفِّ الأول من المجاهدين المهاجمين، كان «صابر» الملقّب مؤخراً بأبي الصبّار المرِّ، يتحسّس بأنامله برد ماسورة بندقيته الآلية، ويضمّ ساعديه إلى جانبيه مُحفّزاً نفسه استعداداً لسماع إشارة بدء الهجوم، وما سوف يليه من تقدُّم نحو بيوت القرية النائمة كامرأةٍ يئست من الوصال.. قال أبوالصبّار المر في نفسه: سيكون فتكاً، فيكون فتحاً. وسيكون سفكاً، فيكون سبياً. فإن كان الموت المرتجى، كانت أبدية الحياة في حضن حور العين.
لما شطرت رأسه الرصاصةُ الآتيةُ من ناحية الظلام المحيط بالقرية، وبعثرته أشلاءً متناثرة. لم تعد لديه أعينٌ يري بها الحوريات اللواتي كان يحلم بهنَّ حين كان حيّاً، ولم يعُد في جثمانه المُخُّ الذي كان يُخيّل له لذّة الوصال.
■ ■ ■

قُبح

شزراً، نظرَ الغرابُ إلى عصفور الكناري الصدّاح في قفصه الذهبي، ثم نوي بعدما بلغ به الغِلُّ مداه أن يصرعه، ليستريح من سطوة جماله. هبط الغرابُ بجناحيه كالأقدار، والتقط قفص عصفور الكناري بمنقاره، وطار به عالياً وابتعد.. لما وقف الغرابُ على مقرُبة من البحر ليرتاح حيناً، قبل استكمال رحلته، سأله العصفورُ عما سيفعله به من بلايا سوف يُسميها الناسُ بعد وقوعها: القَضَاءُ والقَدَرُ!.. نقر الغراب الأرض مراتٍ ثم قال له: لا شيء، سأطير بك فوق البحر وأُسقطكَ، فيُغرقك القفص فأرتاح منك، بعدما جاوزت أحوالُك احتمالي وأزرَت بحالي. اصفرارُ ريشك الرقيق يتعمّد أن يُذكِّرني بالاسوداد الذي يسُودُني، وتغريدُك يهزأ بنعيقي المُنفّر للسامعين. وتُشعرني رشاقةُ حركاتك، بقبح مشيتي العرجاء على الأرض. فردَّ عليه العصفور قائلاً: يا مسكين، اسودادُك البَرَّاقُ علامةُ البأس والحرية، واصفراري دالٌّ على ضعفي ونحولي وطول حبسي. وصوتُك الذي يزعج البعضَ، تُحبه أُنثاك وتفهمه فتأتي إليك فرحةً، فتمرحان معاً في فُسحة الحرية. وأما تغريدي، فما هو إلا نحيبُ وحدتي حتى يرحمني الحابسون ويأتون إليَّ بأنثاي الحبيسة مثلي. لكنهم أبداً لا يرحمون، ويحبون ترنيمي الحزين فيحافظون على سببه. والمشيُّ يا صديقي لا معوّل عليه عندنا، لأننا طيور.. وأنت طائرٌ، عند غير الجاهلين، جميل.
لم يقتنع الغرابُ بهذا الكلام، واستكمل مهمته محلّقاً نحو البحر، وفي منقاره القفص.
■ ■ ■

جمال

فوق البحر الهادر، تحقَّق عصفورُ الكناريا من حتفه ودُنوِّ موته، فابتهج ورفَّ بجناحيه وزفر بالنَّفَسِ الأخير، وفي عقله الصغير دار الفكرُ دورتَه الختامية الخاتمة، وماج، فكان مما جري لحظتها على باله، ما يلي:
الآن أغيبُ، بعدما غيَّبتُ عن الأعين عذاباتي بنشيج غنائي، وغافلتُ المُتغافلين والنُّبهاء بضيق قفصي وقلّة حركتي، عن اختلال شكلي واستطالة جسمي مع نحول جناحيَّ. وأنسيتُ الناظرين غِلظتهم، برقَّتي، التي هي عينُ ضعفي وسببُ هواني..
الآن، أتممتُ كلَّ ما أردتُ..
الآن أموتُ في سلامٍ، مسروراً.

تنويه: هذه الأقاصيص القصار، وغيرها، كُتِبَتْ خلال العام 2014 والذي بعده.. ونُشرت آنذاك صيغتها ال أولى غير المعدّلة، منجمةً، على صفحتي بـ«الفيس بوك».
* المصري اليوم.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *