قصص إسبانوأمريكية


ترجمة: توفيق البوركي (المغرب)


خاص ( ثقافات )

(1)
هواجس أوليغاريو*
ماريو بنديتي (الأوروغواي)
(Mario Benedetti)
لم يكن أُوليغاريو بارعا، فقط، في التنبؤ والتكهّن بما سيحدث مستقبلا، بل كان دائم الاعتداد بقدراته الذهنية، أحيانا يبقى مستغرقا في التأمل للحظات، ثم يقول: “غدا سوف تمطر”، وتمطر. في أحايين أخرى يحكّ عنقه، ويعلن أن الرقم 57 هو من سيتصدر السباق يوم الثلاثاء، وفي ذلك اليوم يكون الرقم 57 هو المتصدّر. وهكذا إلى أن نال إعجابا منقطع النظير بين أصدقائه.
بعض هؤلاء الأصدقاء يتذكرون أشهر تخمينات أُوليغاريو. حدث أن كانوا يتمشّون أمام الجامعة، عندما علا نفير شاحنة رجال المطافئ مخترقا الأجواء الصباحية، فابتسم أُوليغاريو خُفية وقال: “من المحتمل أن منزلي يحترق في هذه الأثناء “.
طلبوا سيارة أجرة، وكلفوا السائق بتعقُّب رجال المطافئ، الذين سلكوا طريق الريفييرا، فتدخل أُوليغاريو مجدداً: “أنا الآن شبه متأكد أن منزلي يحترق”. لزم الأصدقاء صمتاً ينمّ عن الاحترام، ولم ينبسوا بشيء، فلطالما كانت قدراته محطّ إعجابهم وتقديرهم.
تابع رجال المطافئ طريقهم وسلكوا شارع برييرا، وقد بلغ القلق ذروته. وبعد أن داروا ناحية الشارع الذي يقطن فيه أُوليغاريو، بقي الأصدقاء حينها جامدين إزاء التوقع. فقد توقفت الشاحنة، أخيرا، أمام منزل أُوليغاريو المشتعل، وبدأ رجال المطافئ التحضير بسرعة للترتيبات اللازمة لإخماد الحريق. ومن حين لآخر، كانت بعض شظايا نوافذ الطابق العلوي تتناثر في الأجواء. بكل رصانة، نزل أُوليغاريو من السيارة، وعدل ربطة عنقه، وبتواضع المنتصر تقدم لاستقبال تهاني الأصدقاء !!! 
ـــــــــــــــــــــــــــ
ماريو بنديتي: شاعر وروائي وناقد وأحد أهم الأصوات الأدبية في الأورغواي في النصف الثاني من القرن الماضي إلى جانب خوان كارلوس أُونتي. نال سنة 2001 جائزة خوصي مارتي الإبيروأميركية كاعتراف وتقدير بمنجزه الأدبي.
ولد في الرابع عشر من شهر كانون الأول من عام 1920، وتوفي سنة 2009 بالعاصمة مونتفيديو.
*عنوان القصة الأصلي: “رجال المطافئ” وللاطلاع عليه يرجى زيارة الرابط التالي:
ciudadseva.com

(2)
سلة المهملات:
لويس ماتيو ديث (اسبانيا)
Luis Mateo Díez 
كنت قد رأيت، على أقلّ تقدير، سبعة أو ثمانية أشخاص، لا يوحي مظهر أحد منهم بأنه شحاذ، يُدخلون أياديهم في سلة مهملات كانت مثبتة إلى عمود إنارة قريب من موقف السيارات حيث أترك سيارتي كل صباح.
كان حدثا تافها، خلف عندي نوعا من البغض، لأنه من الصعب أن تطرد عنك صورة تلك العادة القبيحة والمؤلمة، خصوصا إذا فكرنا فيما يمكن أن تحويه سلّة مُهملات من مفاجآت قذرة.
كنت أعتبر وقوعي في ممارسة هذه الرذيلة أمرا غير معقول؛ لكن في تلك الصبيحة، وبعد جدال حاد نشب، ليلاً، بيني وبين زوجتي، بسببه لم يعرف النوم طريقه إلى عيني؛ أوقفت سيارتي كالمعتاد وبينما كنت أتقدم باتجاه مكتبي، جذبتني سلّة المهملات بشكل عجيب كمغناطيس؛ ودون أن أضع في حسباني إمكانية أن يلمحني أحدهم، أدخلت يدي داخلها، بنفس العزيمة الخرقاء التي رأيت من سبقوني يقومون بذلك.
إذا قلت بأن حياتي قد تغيرت بهذا الشكل، ربما أكون قد بالغت كثيرا، لأن الحياة شيء أسمى من المادة التي ترتكز عليها ومن الحلول التي نصطنعها لتحمل هذه الحياة.
الحياة، أولا وقبل كلّ شيء، في رأيي المتواضع، إحساس بكينونتنا أكثر مما هي تقييم لما نملك.
لكن علي أن اعترف بأن أشياء كثيرة في حياتي قد أخذت منحى آخر.
تحولت إلى مقاول مُوسر، انفصلت عن زوجتي وعقدت قراني على شابة حسناء، واشتريت ضيعة جميلة ويختا، كان بالنسبة لي دائما طموحا يستهويني، ثُم إنني لم أتوقف عند هذا الحد فقط، بل أجريت زراعة شعر في أحسن مصحّات سويسرا، قاطعا بذلك مع عقدة الصلع الرهيبة التي ورثها عن أيام الشباب.
كانت تذكرة اليانصيب التي كنت قد استخرجتها من سلسلة المهملات متسخة ومُنكمشة، كما لو أن أحد ما قد تقيئ عليها، لكنني عرفت كيف اضبط نفسي وأن أخفي تقززي في مقابل الثروة التي كانت تنتظرني خلال سحب أعياد الميلاد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لويس ماتيو ديث : ولد سنة 1942 ببلدة بيابيلينو (ليون-اسبانيا) حيث عاش طفولته إلى سنة 1954 حيث انتقل رفقة عائلته إلى مدينة ليون. 
درس الحقوق في جامعتي مدريد وأُفييدو، ساهم مابين سنة 1963 و 1968 في تحرير المجلة الشعرية وبها نشر أولى قصائده.
اختير سنة 2000 عضوا بالأكاديمية الملكية الإسبانية. نال العديد من الجوائز خلال مشواره الأدبي وهو عضو شبه دائم في معظم لجان تحكيم المسابقات الخاصة بالقصة والرواية.


(3)
الــــــيــــــــد
رامون غوميث دي لا سيرنا (اسبانيا)
Ramón Gómez de la Serna

اغتيل الدكتور ألِيخُو، لقد تم خنقه دون أدنى شك.
لم يدخل أحد إلى منزله، لا أحد على الإطلاق، بالرغم من أنّه كان ينام والشرفة مفتوحة، لعارض صحي، إلا أنّ الشقة حيث يقطن كانت في طابق عال جدّاً، مما يجعل دخول الجاني منه أمرا مستبعدا.
لم تجد الشرطة دليلا لفكّ لغز الجريمة. وكانت على وشك إغلاق ملفّ القضية؛ لولا قدوم زوج القتيل وخادمتها إلى قسم الشرطة مرعوبتين.
يد وحيدة تنبض بالحياة كعنكبوت، نطّت من أعلى الدولاب، ثم سقطت على المائدة؛ نظرت إليهما ملياًّ، وبعدها فرّت عبر الغرفة. فأقفلتا عليها الباب بالمفتاح وتركتاها حبيسة.
توجّه أفراد من رجال الشرطة، بمعيّة قاضي التحقيق، بقلوب مِلؤُها الرعب، فهذا واجبهم في نهاية الأمر. كلّفهم أمر توقيف اليد بذل جهد كبير، لكن المهمة كُلِّلت بالنجاح وتم اصطيادها والقبض عليها من أحد أصابعها. كانت قوية جدّاً كما لو كانت تختزن قوة رجل كامل.
ماذا سيفعلون بها؟ ما الجديد الذي ستضيفه إلى القضية؟ كيف سيتّهمونها؟ ولمن هي في الأصل؟
بعد وقفة طويلة، خطرت للقاضي فكرة إعطائها ورقة وقلماً لتعترف كتابياً، حينئذ كتبت اليد:
“أنا يدُ راميرو رويث، الذي اغتاله الدكتور، بدناءة في المستشفى، بعدما قطع أطرافه ونكّل به نكالاً شديداً في قاعة التشريح. لقد حققت العدالة”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رامون غوميث دي لا سيرنا (ولد في مدريد 1888- وتوفي في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس 1963).
(4)
خطأ صائب جدّا
قصة: ليون فبريس كورديرو (فنزويلا)
León Febres Cordero
– من حان موعد ضرب رقبته هذا اليوم؟ سأل الملك بقلق
– الدور عليكم يا مولاي. أجاب الوزير بحرص
– ومن أعطى أمرا كهذا؟
– أنتم يا سيدي. وأوامر جلالتكم هي بمثابة قوانين في هذه المملكة.
– وفي أيّة ساعة تقرر تنفيذ الحكم؟
– على الساعة الثانية عشرة زولاً، وآخر دقيقة توشك على الانتهاء الآن.
– هل أستطيع أن أُلقي خطابا من بضع كلمات قبل أن أموت؟
– لا يا مولاي.
– ومن سلبني هذا الامتياز؟
– إنها أوامر جلالتكم، تجنبّا لإصدار ظهير جديد ينقُض سابقه.
– أليس ذاك هو الجلاد وتلك منصة الإعدام؟ 
– بلى يا مولاي.
– إذن فسأصمت إلى الأبد؟
– وسيشكر لكم شعبكم هذا الجميل إلى الأبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليون فبريس كورديرو : 
هو قاص وكاتب مسرحي فنزويلي. ولد سنة 1954 بمدينة كراكاس. أمضى جزء من حياته في الخارج متنقلا بين دول أوربية كإيطاليا، اسبانيا والمملكة المتحدة (حيث أنجز أطروحته الجامعية عن مأساة شكسبير). 
له خمس مسرحيات تم تجميعها في كتاب واحد وصدرت عام 2002 عن دار النشر أرتي ليترا، بالإضافة إلى مجموعة قصصية وحيدة بعنوان “نصوص عطشى وقصص أخرى” رأت النور سنة 2012 عن دار النشر فيربوم بمدريد. 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *