بياض السهل


فجر يعقوب


عبرت مدناً كثيرة في الشهور الثلاثة الماضية: أستانبول، أزمير، بودروم، كوشتاديسي، جزيرة ساموس، أثينا، ستوكهولم، موتالا، اوسلو، ألطا، همرفست، كارلستادي، وأرى أن الرحلة أوشكت على الوقوف. 
ما يهم ليس الطرق التي عبرت منها، فأنا أعتقد أن البرهة التاريخية في التخلص من هذا الإرث الثقيل الذي تشكلت منه ذاكرتي لم يكن ممكنا انجازه دون «بياض سهل» (قصيدة حب). أعتقد أنني أنجزت ذلك. لأن كل ما تقدم لم يكن ممكنا من دون الاحتماء بدمشق ناقصة. الطريق اليها كمن يختطف قلب دمشقية، ويسهو معه مئة عام، قبل أن يكتشف أن القطار لم يقله الى أي من هذه المدن المذكورة، وأنه مازال يخب في ذاكرته الخصبة الأولى، ولا يبرحها الى أي منفى!
سأنزل على الأدراج
بلا مجاز يذكر:
أغادر الجنة بسرعة
حتى أقول للمفقودين
كم أحببتك في غيابهم
وسيصدقني بعضهم لأنني ملاك، 
ويرفض بعضهم تصديقي
لأنني أعيش بينهم 
بلا مجاز يذكر في حياتي 
ولكنني سأنزل مسرعا
من دون أدراج في جيوبي
من دون غيمات
من دون صفعات
في وجه الذوق العام
وأقول للنائمين 
تحت الأشجار بلا أجنحة: كم أحبك!
وراء كل حجر 
أغنية عن القلب
أعرف هذا، 
وأنت تعرفين ذلك جيدا
حتى أنه يمكن 
لأصابعك المتوهجة 
أن تلتقطها أو تلقي 
بها في بحيرة:
لا يمكن تفسير ذلك
فالأحجار 
في كل مكان من حولنا
وفيها نظرات لنا 
نتركها فوقها أحيانا
من التعب والوله 
ونعود اليها 
وهي تنطفئ رويدا رويدا
آخر الكلمات
التي تبادلناها على عجل
لا تفقد شيئا من فلسفتها
وتتنفس معنا للصبح
وتدور في الايماءات
الجليدية كي تتكسر:
تدرك ببداهة أنك غاضبة
وتغير من حدة اللون البنفسجي
الذي ينتظرها عندما تنهمر مجددا
في كل الأمكنة التي تتواجدين فيها 
خلف نظارتين سوداوين…
لو دارت الكلمات 
وعادت لتصفن 
في خريف سهل 
نائم على الطرقات
ستظل تنقّْل “كلمة أحبك”
من غصن بلا أوراق شاحبة 
إلى غصن دافئ وأخضر:
فقط لو تخففين 
من حدة سخطك علي 
في كل صباح 
أتفقد فيه كلماتي 
على جسمك وأنت نائمة!
بوسعي أن أعلق 
مثل فراشة
في نول يدوي
وأعبر نهرا شتويا
بأقل قدر من شهقات الموت:
أعلم أنك ستكونين في كل قطرة ماء
وستسألينني عن الأشياء التي تنفع
وقت عبوري في صرخات
تشق خيطا تحمله الريح
بوسعي أن أحيا كل يوم بيومه 
في قطرة ماء مدورة تسقط 
من كمِّ قميصك!
ليس أقل من هذا 
أنني أستطيع 
أن أدور على عقبي
وأنفث دخانا في المرايا المقابلة
وأحصل على صفر في السلوك:
حتى شبيهي الأرعن 
سيضحك شامتا بي
أما أنا الذي أقف قبالته
فأحكّ رأسي في يوم بارد
وأنفخ على سطح المرآة
كلمة “أحبك”.
وأنتظر هذا الجبان 
الذي يقف قبالتي
متشفيا بي 
بسبب غيابك
ليعلق بشيء
حتى أمسحه
بكم قميصي!
***
الرجل الذي يأنس 
بلهب الشمعة
في الغرف المغلقة
يحدق في لوح المرمر
كيف وصل للسطح
وكتب عليه الاسم
لا يتذكر أن أصابعه 
حملت شيئا
أو عود ثقاب خاطف
مر بجانب صورته
لا يتذكر من
نام بقربه!
وأنت تحملين مظلتك
فكري في وعودك 
الإستثنائية لي
بأن تحرري عصفورين
في يوم واحد 
من تحت القميص:
ليس هناك غيوم
أو رياح شمالية غربية
ولا أسقف واطئة
بمداخن قرميدية
حتى تتحرري من الفكرة
بحد ذاتها،
كل ما في الأمر
تنقصنا سماء
لا ترصعها النجوم
حتى نتقي المطر 
بأيدٍ عارية 
ومظلات مثقوبة
وننسى قليلا أمر العصفورين!
لو كنت غارقة في الظلام
وبعيدة مثل سمكة 
غير مكتشفة
يمكنني ان أجدل شعرك
المبلل بالماء
وأترك لقياك 
وملامسة وجهك 
لشمعة بلهب طويل 
تقودني اليك 
منزوعا من خطواتي 
وأفكر بنوع العناق
بلا هفوات
وأنا مقيد في السهل!
——–
المستقبل

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *