مؤنس الرزاز.. السياسي حينما يكون أديبًا (2)



*محمود شقير

خاص ( ثقافات )


الحلقة الثانية
1
وأنا أعيد قراءة “جمعة القفاري.. يوميات نكرة” المكتوبة بأسلوب هزلي ظريف، لاحظت كيف يكتب مؤنس رواية أردنية بامتدادات عربية وبأفق إنساني يتسع لهموم إنساننا العربي المعاصر. لاحظت كيف يحتفي الكاتب بعمان دون مبالغة أو افتعال. كيف يعدد أسماء مدن أردنية وقرى، ما يعطي المكان في الرواية مكانة مرموقة ويسبغ على الرواية نكهة محلية خاصة. لاحظت كيف يسرد أسماء كتاب أردنيين وأسماء سياسيين أردنيين كان لبعضهم دور بارز في الماضي القريب، في حين أن بعضهم الآخر ما زال يؤدي دوراً بارزاً حتى الآن.
لاحظت كيف استوعب مؤنس، ولم يمض على عودته إلى عمان سوى بضع سنوات، التغيرات التي فعلت فعلها في النسيج الاجتماعي للمدينة وفي منظومة القيم. كيف استوعب ما يجري في عالمنا من تغيرات سلبية حادة، تركت أثرها علينا وعلى غيرنا. وكيف جسّد كل ذلك في عمل فني هزلي ممتع.
وأنا أعيد قراءة الرواية، لاحظت كيف أن معاناة مؤنس بسبب حساسيته المفرطة، تزداد تفاقماً، ولا ينفع فيها النصح الذي ورد في الصفحات الأولى من الرواية، حينما يقول الدكتور جوزيف، لجمعة، الشخصية الرئيسة في الرواية، التي تعبر عن مؤنس على نحو ما: تصالح مع نفسك يا جمعة، وتصالح مع الحياة، وإلا أصبت بانهيار عصبي أو جلطة مبكرة.
2
وأتذكر “مؤنس” حينما كنا ننهمك في التحضير لانتخابات رابطة الكتاب. قبل موعد الانتخابات بشهرين أو أكثر قليلاً، تبدأ اجتماعاتنا الدورية التي اعتدنا عقدها في البيوت. نلتقي في بيت هذا الصديق أو ذاك، لنضع خطتنا في التحرك لكسب الانتخابات. وهذا يتطلب بالضرورة اتصالات مثابرة بأعضاء الهيئة العامة للرابطة.
كان مؤنس يحضر هذه الاجتماعات أو أغلبها على وجه التحديد، والاجتماعات تستغرق وقتاً طويلاً لاشتمالها على تفاصيل كثيرة مملة. قبل نهاية الاجتماع بقليل، كان مؤنس يردد مطلع أغنية سيد درويش: أنا هويت وانتهيت. يرددها متلفظاً بها لا مترنماً، ولا يلبث أن ينهض متأهباً لمغادرة المكان (في رواية جمعة القفاري، لاحظت أن “مؤنس” يقول على لسان بطل روايته: تعلمنا ترديد مطالع الأغاني من دون أن نحفظ الأغاني بالذات).
استعان مؤنس بالكثير من تفاصيل حياته اليومية لكي يغني أدبه الروائي، بحيث يبدو أدباً مشخصاً طالعاً من حرارة التجربة وخصوصيتها.
3
كتبت في دفتر اليوميات:
أتذكر وأنا أكتب عن مؤنس الرزاز، كيف كنت نصيراً لحزب البعث فترة محدودة من الوقت. وكان اسم منيف الرزاز، والد مؤنس، يأتي ذكره مع كوكبة أخرى من الأسماء البارزة في حزب البعث العربي الاشتراكي. كان ذلك أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، حينما كان للحزب نفوذ ملموس في قريتي. شاركت أثناء التحضير للانتخابات البرلمانية التي جرت العام 1956، مع غيري من الطلبة، في حضور المهرجانات الخطابية التي كان ينظمها الحزب في القدس، لمرشحيه للبرلمان. كان نشطاء الحزب يأخذوننا في الحافلات إلى المدينة، وكنا نردد من ورائهم وهم يهتفون: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة. وكنا نردد من ورائهم: لا شرقية ولا غربية، وحدة، وحدة عربية. 


ولم أواصل تأييدي لحزب البعث، لأنه كان يرفع شعار: وحدة، حرية، اشتراكية. كنت مع الوحدة والحرية، ولم أكن آنذاك مع الاشتراكية. وحينما اختلف جمال عبد الناصر مع حزب البعث، وقفت مع التيار المؤيد لعبد الناصر، لأنه كان الأكثر تعبيراً عن فكرة الوحدة العربية، والنضال ضد الاستعمار.
4
وأعود إلى قراءة “أحياء في البحر الميت” و “اعترافات كاتم صوت”.
أقرأ “مؤنس” من جديد، وأدرك أنه قال الشيء الكثير في هاتين الروايتين. ربما كانت الرواية الثانية أكثر نضجاً من الأولى. بل هي أنضج بالتأكيد، بحيث تبدو كما لو أنها الجزء الثاني المكمل للرواية الأولى، وبحيث يبدو “أحمد” في الرواية الثانية كما لو أنه استمرار ل”عناد الشاهد” في الرواية الأولى.


أقرأ “مؤنس” وأنا أتابع رغبة بطله “الدكتور مراد” في البقاء حياً حتى يرى القرن الحادي والعشرين. تبدو الرغبة هنا مشحونة بفكرتنا المسبقة عن الحتمية، حتمية التقدم التي يحملها التاريخ على جناحيه المحلقين في الزمن. ورغم ما حملته إلينا مطالع هذا القرن الجديد من هزائم وإحباطات، يظل اعتقادنا بأن “أجمل الأيام هو اليوم الذي لم يأت بعد”، قابلاً للتداول، لا يمكن الاستغناء عنه، ثم إن مسار التاريخ يحتمل التذبذب والتراجع والنكوص في بعض الفترات. لم يكن هذا الأمر غائباً عن بال الذين آمنوا بحتمية التقدم البشري، ولعل المسيرة التي قطعها البشر عبر التاريخ المكتوب تؤكد ذلك ولا تنفيه. ربما كانت المشكلة تكمن في فهمنا المسطح للحتمية، في تفاؤلنا الساذج الذي دفعنا إلى الاقتناع بأن انتصار قوى العدل والسلام ما هو إلا مسألة وقت، وقت قصير نسبياً.
لكن قراءتي لمؤنس لم تتوقف كثيراً عند ما هو إيديولوجي في روايتيه، بقدر توقفي عند ما في الروايتين من صنعة روائية ذكية، تتبدى أكثر ما تتبدى في الرواية الثانية. تبدو الرواية الأولى إرهاصاً فنياً لا يخلو من ثغرات، يجري تجاوزها في الرواية الثانية، حيث اللغة متخففة من الطاقة الشعرية العالية والانفعال الطاغي، وحيث السرد أكثر انضباطاً ورشاقة. ويبدو تأثير فوكنر عبر روايته الفذة “الصخب والعنف” بادياً على الروايتين، دون أن يطمس ذلك، خصوصية مؤنس وأسلوبه الخاص.


إن استلهام مؤنس لتجربة حياته الشخصية، واستثمارها في روايتين من روايات السيرة الذاتية، يقدم لنا نماذج بشرية موّارة بصخب الحياة وعنفها. مؤنس في روايتيه يستعرض الكثير من معضلات الوضع العربي، بدءاً من تجربة الوحدة ثم الانفصال، مروراً بتجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وليس انتهاء بتجربة كاتم الصوت في غير قطر عربي. ورغم أن شخوص مؤنس في الروايتين، يمكن اعتبارها بشكل أو بآخر، رموزاً حاملة لأفكار ومواقف وإيديولوجيات، إلا أنه يبدو، بفعل ما لديه من وعي فني، حريصاً على الابتعاد عن المواقف الذهنية المجردة، التي تفقر الشخوص وتجعل حركتها ثقيلة مفتعلة، وذلك بشحنها بكل ما هو مشخص ونابض بالحياة في مجرى السرد الروائي، الذي يتوسل شكل المونولوج. مؤنس لم يكرس روايتيه للقضايا السياسية والاجتماعية وحسب، فثمة تأملات وجودية فيهما، وعزف متكرر على ثيمة الموت.


وأنا أقرأ الروايتين من جديد، عرفت “مؤنس” على نحو أكثر عمقاً. عرفت الألم الذي ظل يعذبه حتى آخر لحظة في حياته. أدركت أن شخصية عناد الشاهد وكذلك شخصية أحمد، تكشفان لي ملامح أخرى من شخصية مؤنس. طبعاً، لم يخطر ببالي أن أجعل هاتين الشخصيتين الروائيتين مطابقتين تماماً لشخصيته، لكنهما تنمّان عن بعض خصاله وطباعه. تنمّان عن ألمه المزمن.
أتذكره حينما عاد إلى عمان أوائل ثمانينيات القرن الماضي: شخصاً ودوداً مهذباً، منطوياً على حزن تنم عنه عيناه، راغباً في إقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين، إنما بشيء من الحذر، ربما بسبب خيبة أمله في أقرب المقربين إليه، المنتمين إلى الفكرة نفسها التي انتمى إليها. كانت رواية “أحياء في البحر الميت” صدرت في بيروت، وفيها فرّغ مؤنس قدراً غير قليل، من انفعالاته وعذاباته. 


بدا مرتاحاً مستقراً، أو هذا ما توهمته. تعارفنا دون مقدمات، ولم يكن يحمل أية حساسية تجاه اليسار الماركسي، لأنه لم يعد قومياً منغلقاً على نفسه. في روايته الأولى، قال عناد الشاهد إنه يقرأ المادية الجدلية، وفي الرواية الثانية قال أحمد إنه يفعل الشيء نفسه. لاحظت أن بعض المواقف والصياغات الواردة في الرواية الأولى تكررت في الرواية الثانية، مرة كما هي بالضبط، ومرة أخرى مع إضافات وتطوير لافت للانتباه.
الآن، لم أعد متأكداً من أن “مؤنس” كان راغباً في الانخراط معنا في العمل النقابي في الرابطة، عن قناعة وتصميم. أظن أنه كان محبطاً، ولم يقل لنا ذلك، بسبب ما فيه من وداعة وخجل، ولأنه لا يريد أن يفجعنا بإرباك صورته التي كنا نحملها له، بصفة كونه مناضلاً صاحب تجربة، ولأننا لم نكن قادرين آنذاك، على الاعتراف بأن للمناضل عناصر ضعفه مثلما له عناصر قوته. لم أعرف ذلك في حينه، عرفته بعد قراءتي لروايتيه من جديد، فازددت احتراماً له وتقديراً لوضعه النفسي الذي لم يكن سهلاً. ألم يقل على لسان عناد الشاهد إنه مأزوم بعد أن تم تدمير الحلم (دولة الوحدة) وكان أصحاب الحلم هم أنفسهم سبباً في تدميره! عرفت الآن بدقة أكبر، (أو ربما هذا ما أتوهمه) لماذا كان مؤنس يعلن ضيقه من العمل في الرابطة، يتمرد ويستقيل لأي سبب، نحاول أن نسترضيه، يرضى بعض الوقت، ثم يستبد به النزق من جديد، يستقيل ويبتعد عن العمل النقابي، لكنه لا يتوقف عن الكتابة.


منذ البداية، كان لمؤنس موقعه المرموق في مجموعتنا النقابية التي جمعت في صفوفها حزبيين يساريين ومستقلين من ذوي النزعات التقدمية. كنا مغتبطين بالدور الذي نقوم به. على الجانب الآخر، كانت مجموعة يسارية أخرى تنتمي إلى الجبهة الديمقراطية أو تتعاطف معها ويقودها سالم النحاس، تُنافسنا حيناً وتعمل بالتحالف معنا حيناً آخر. كنا جميعاً نزقين في بعض المواقف والتصرفات، متعقلين في مواقف أخرى. كانت التجربة في محصلتها النهائية لا يستهان بها. إلا أن بعضنا قدم من وقته الكثير للعمل النقابي على حساب الكتابة الإبداعية. كنت أنا واحداً من هؤلاء، ولم يكن مؤنس كذلك.


حينما صدرت رواية “اعترافات كاتم صوت” أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، احتفينا بها وعقدنا ندوة لمناقشتها في مقر الرابطة. أذكر أن النقاش احتدم حول الرواية، ما بين متحمس لها ومتحفظ على بعض ما جاء فيها. الآن لم أعد أذكر تفاصيل ذلك النقاش. أذكر أنني تحدثت بأسلوب انفعالي، مفنداً حجج “الخصوم” معلياً من شأن النبرة الإيديولوجية التي اختفت وراء سطور الرواية حيناً، أو ظهرت على سطحها حيناً آخر. كانت رواية مؤنس، بغض النظر عن مغالاتها، التي تصل تخوم الكاريكاتور، في تصوير الجنرال وأتباعه، تصب في المنحى الإيجابي المنحاز للديمقراطية، الرافض للقمع الذي يمارسه الديكتاتور وزبانيته، وبدا مؤنس فيها وفياً لقناعاته الفكرية، التي أخذت تتسع وتتعمق، بفضل تجربته الحية، وبتأثير من ثقافته الواسعة ذات المنابع المتعددة. 


يحمل أحمد بطل الرواية الكثير من ملامح مؤنس، ويشير إلى تجربته الشخصية. بل إن الرواية كلها، ما هي إلا سيرة ذاتية متخفية في إهاب الرواية على نحو ما، تسرد بأسلوب المونولوجات الداخلية التي يتولى شخوص الرواية القيام بها، على غرار ما فعل أبطال فوكنر في “الصخب والعنف”، سيرة الأسرة، أو بعض جوانب من هذه السيرة: اعتقال الوالد في بغداد ووضعه في الإقامة الجبرية، واحتجاز زوجته وابنته معه في البيت المحاط بالجنود والأجهزة، مع قلب تقتضيه ضرورات العمل الفني لحادثة وفاة الأب في بيت الإقامة الجبرية، وتحويل ذلك إلى اغتيال أحمد على يد شخص مأجور، كان ذات يوم منتمياً للفكرة نفسها التي ينتمي لها أحمد ووالده. 
حينما أتذكر الكوميديا السوداء والسخرية المبطنة التي تظهر في الرواية بين الحين والآخر، وبعض القفشات الظريفة التي يشتمل عليها السرد الروائي أو حوارات الشخوص، تقفز إلى ذهني مباشرة صورة مؤنس صاحب الدعابات والمواقف الساخرة، الذي يميل إلى المزاح والدعابة بين الحين والآخر، رغم هالة الحزن التي تخيم على وجهه وتعبر عن ألمه الداخلي، بل لعل هذا المزاح وتلك الكوميديا السوداء هما التعبير الأعمق عن الألم الذي يسكنه.


لم أقف على حقيقة الألم الذي كان يعشش في أعماقه إلا فيما بعد. أوائل التسعينيات تحديداً، التقيته مرة في القاهرة، حينما جئت من براغ للمشاركة في الأسبوع الثقافي الفلسطيني. جاء من عمان ومعه زوجته، للمشاركة في الأسبوع الثقافي. كان منطوياً على نفسه بعض الشيء.
التقيته مرة أخرى في تونس أثناء المشاركة في إحدى الفعاليات الفلسطينية. كان أكثر انطواء على نفسه، متألماً صامتاً أغلب الوقت، ثم عرفت أنه اختار العزلة بعد ذلك، وأصبح زاهداً في العلاقات الاجتماعية، مواظباً على الكتابة. 


بعد قراءتي لاعترافاته التي نشرها في مجلة أفكار قبل وفاته بوقت قصير، وإشارته فيها إلى أنه كان يعاني في فترة صباه من مرض عصبي لم يتخلص منه تماماً، أدركت مدى العذاب الذي كان يحتدم في أعماقه. أدركت كم تضنيه محاولات التعالي على الألم، والاضطرار إلى مجاملة الآخرين في وقت لا يكون لديه أي استعداد للمجاملة (المجاملة، هذا السلوك الاجتماعي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في مجتمع ما زالت بنيته الاجتماعية تقليدية إلى حد كبير). فإذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة كون مؤنس شخصاً حساساً إلى أبعد الحدود، ثم أضفنا ذلك، إلى التجربة المرة التي عاشها والده: من قائد لحزب حاكم إلى معتقل في بيت الإقامة الجبرية على يد قيادة الحزب الحاكم نفسه، وإذا أضفنا معاناة مؤنس من هذه التجربة التي عاشها والده، ومن المصير الذي انتهى إليه، ثم معاناته (معاناة مؤنس) من التحولات السلبية التي طرأت على مسيرة الحزب الذي انتمى إليه، ثم انسحابه منه وتناقضه معه، وتراكم ذلك جنباً إلى جنب تعقيدات الوضع العربي الموسوم بالهزائم والنكسات منذ حزيران العام 1967 حتى الآن (ولا ننسى النكبة الكبرى العام 1948 )، وما يشهده هذا الوضع من تبعية وتخلف، وأثر كل ذلك على نفسية مثقف مرهف الحس، لأدركنا بعضاً من المنابع الحقيقية لأدب مؤنس الرزاز. وفي هذه الحالة يصح التساؤل: هل كان لا بد لمؤنس من تجرع كل هذا الألم وتلك المعاناة، لكي يعطينا كتابة إبداعية ما زلنا نقرأها بعد سنوات من ظهورها إلى حيز العلن، ونرى في أكثرها تألقاً وجدارة فنية ودعوة صحيحة إلى حياة أكثر عدلاً، وأكثر احتراماً لإنسانية الإنسان؟ هل كان لا بد من ذلك؟ وهل يمكن أن تكون للكتابة قيمة دون ألم ومعاناة؟ حتى لو لم نطرح السؤال، فقد وقع الذي وقع، وعاش مؤنس ألمه حتى الثمالة، ولم يعد ثمة إلا الحقيقة التالية: تلاشى ألم مؤنس، وبقي أدبه الذي يجعله جديراً بالتقدير على الدوام.
__________
*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *