*بشرى زكاغ
يعتبر أرسطو أو أرسطوطاليس من أبرز عمالقة الفكر الفلسفي الإغريقي، وقد كان تلميذًا لأفلاطون ومرافقه الدائم لمدة عشرين سنة، إلا أنّه اختلف عن أستاذه بعد وفاته من حيث الطريقة والمنهج، حيث يعتبر أسلوب أرسطو استقرائيًّا واستنتاجيًّا، أما أسلوب أفلاطون فهو أساسًا استنتاجي لمبادئ استدلالية.
تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة فكرة الإله عند أرسطو، انطلاقًا من استنتاجاته واستقراءاته التي قدم لها في كتابه ‘ما بعد الطبيعة’، حيث نظر هذا الفيلسوف إلى الكون نظرة هيراركية تصاعدية، من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الأجرام السماوية إلى الآلهة، وتنتهي سلسلة المحركات هذه عند محرك لا يتحرك، وهو أصل الحركة بجميع أشكالها في الكون، لكن أرسطو لا يقف عند هذا المحرك الذي لا يتحرك، بل يرى أنّه يجب أن يكون هناك محرك آخر يلي المحرك الأول الذي لا يتحرك ويستمد حركته منه، وهذا المحرك هو السماء الأولى أو فلك النجوم الثوابت. فما طبيعة الإله عند أرسطو؟ ما هي حلقة الوصل بين المحرك الذي لا يتحرك وسائر الموجودات الأخرى؟ هل أخلص أرسطو لوحدانية الإله؟ كيف امتد إله أرسطو المنشغل عن العالم إلى الفكر الغربي؟ وهل وجد الغرب ضالته في هذا الإله المنشغل والمغلوب على أمره؟
1- من هو أرسطو؟
يعتبر أرسطو أو أرسطوطاليس من أبرز عمالقة الفكر الفلسفي الإغريقي، وقد كان تلميذًا لأفلاطون ومرافقه الدائم لمدة عشرين سنة، تشبع فيها بحكمته ومثاليته، إلا أنّه سرعان ما ابتعد عنها وأنكر عالم المثل بعد وفاة معلمه، حيث آمن أفلاطون بفلسفته المثالية التي كانت تبحث عن الحقيقة في أعماق النفس وفي الأعالي، بينما تشبث أرسطو بعالم الواقع والحس، وركزت فلسفته على الواقع وعلى الإنسان، ونظر إلى الطبيعة نظرة علمية عميقة سار فيها بمنطق تدريجي متسلسل.
شأن أستاذه أفلاطون، هدفت فلسفة أرسطو إلى العالمية، وقد وجد العالمية في أمور معينة، وصفها بأنها جوهر الأشياء، في حين يرى أفلاطون أنّ العالمية موجودة بصرف النظر عن أشياء معينة، وغير متعلقة بها على نموذج أو قدوة. كما تنطوي الطريقة الفلسفية عند أرسطو على الصعود من دراسة الظواهر الخاصة لمعرفة الجواهر، في حين أنّ طريقة أفلاطون الفلسفية تعني الهبوط من معرفة نماذج عالمية (أو أفكار) إلى التأمل في تقليد معين، ويظهر جليًّا من ذلك أنّ أسلوب أرسطو استقرائي واستنتاجي، أما أسلوب أفلاطون فهو أساسًا استنتاجي لمبادئ استدلالية.
جعلت الظروف من أرسطو معلمًا لواحد من أهم شخصيات العالم القديم، وهو إسكندر الأكبر المقدوني، حيث لازمه صديقاً، ومعلماً، ومستشاراً، الأمر الذي مكن إسكندر الأكبر من أخذ قسط وافر من سمات معلمه، حيث تميز بالشجاعة والحكمة وحب المعرفة، كما أنّ أرسطو تمكن من غرس فلسفته وأفكاره في الأمير الشاب خاصة نزعة الفتح، والوحدة والهيمنة. جعل ذلك من تلميذ أرسطو على الرغم من فترة حكمه الصغيرة، العقل المفكر والسياسي المحنك والقائد المدبر لإمبراطورية مترامية الأطراف، تمتد من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى أقصى غربها.
2- طبيعة الإله عند أرسطو:
يعتبر أرسطو واحدًا من أهم الشخصيات التي وضعت الأسس الأولى للفلسفة الغربية. فقد كان أول من أنشأ نظامًا شاملاً للفلسفة الغربية، ويشمل الأخلاق وعلم الجمال والمنطق والعلم والسياسة والميتافيزيقا، كما كتب في العديد من المواضيع، بما في ذلك علوم الفيزياء والميتافيزيقا، والشعر، والمسرح، والموسيقى، والمنطق والبلاغة والسياسة والدولة، والأخلاق، والبيولوجيا، وعلم الحيوان، ساعيًا من خلال كل ذلك إلى الإجابة عن مجموعة من الإشكالات المطروحة في عصره من قبيل: ما خير نوع من الحكم تصلح به الدولة؟ ما خير سلوك يسلكه الإنسان؟ ما طبيعة الإله؟
وللإجابة على هذه الإشكالات تحدث أرسطو عن نظام الحكم في كتاب ‘السياسة’ وعن السلوك في كتاب ‘الأخلاق’، وعن الإله في كتاب ‘ما بعد الطبيعة’. ولما بعد الطبيعة عند أرسطو معنيان: معنى خاص يقتصر موضوعه على الجواهر المفارقة، وهو ما يدعوه بالإلهيات خاصة، ومعنى عام يبحث في خصائص الوجود بما هو موجود، وهو ما يسميه بعلم الوجود.
وأول ما ينبغي أن نلفت النظر إليه في مذهب أرسطو، هي نظرته إلى الكون أو ما يعرف بـ”الهيراركية” أي التصاعدية، فالكون حسب هذا الفيلسوف مرتب من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الأجرام السماوية إلى الآلهة، ومعنى هذا في فلسفة أرسطو، أن الكون منظم بطريقة تصاعدية دقيقة، وقد مكنته نظرته الهيراركية هذه من قاعدته الشهيرة: “إنّ الطبيعة لا تفعل شيئًا باطلاً”، ومعنى ذلك يشرح أرسطو: “نستطيع أن نقول إنّنا نجد أنفسنا باستمرار في العالمين معًا: عالم الطبيعة وعالم الفن – أمام ترتيب نجد فيه أنّ ما هو أدنى موجود لصالح ما هو أعلى، وما هو أعلى إنّما يكون كذلك لسبب ما فيه من مبدأ عقلي”[1].
ومن أهم بنود العلم الإلهي الذي تطرق له أرسطو كان البحث عن طبيعة الإله (أو المحرك) الذي يخرج ما هو بالقوة من القوة إلى الفعل، وذلك انطلاقًا من مجموعة من المفاهيم، التي حاول هذا الفيلسوف صياغتها لتحديد طبيعته: المحرك الأول الذي لا يتحرك، صورة الصور، الإله عقل محض، حياة الإله في تعقله، عاقل لذاته، معقول لذاته، عقل لذاته..
مما سبق يبدو أنّ الإله عند أرسطو ليس خالق الكون فقط بل حركته، فكل الأشياء تتحرك في زمن معين، فإذا تساءلنا من يحركها؟ يكون جواب أرسطو: إنّ الذي يحرك الأشياء هو المحرك الأول، ولكن ما طبيعة هذا المحرك؟
يجيب أرسطو بأنّ الإله محرك لا يتحرك، فكل محرك سواء أكان شخصًا أو شيئًا أو فكرةً، يحرك شيئًا ويحركه شيء، فالمحراث يحرك التربة، واليد تحرك المحراث، والعقل يحرك اليد والرغبة في الطعام تحرك العقل، وغريزة حب الحياة تحرك الرغبة في تناول الطعام والشراب. ولكن الإله حسب أرسطو لا يمكن أن يكون نتيجة لأي عمل، بل هو مصدر كل عمل، إنّه محرك العالم الذي لا يتحرك، يقول في هذا الطرح: “ينبغي أن تنتهي سلسلة المتحركات إلى محرك أول لا يتحرك وهو أصل الحركة بجميع أشكالها في الكون”[2]، وطبيعة هذا المحرك أنّه:
– ينبغي أن يكون محركًا أزليًّا: لأنّه لو تحرك بغيره فمعنى هذا أنّه يوجد شيء آخر يحركه، فهو لا يمكن أن يكون محركًا بغيره بل محرك بذاته.
– ينبغي أن يكون غير منقسم وغير ذي كم: أي أنّه أبدي لا ينقسم لأنّه، إذا انقسم تعدد ولو تعدد لأصبح له أجزاء، وعندها لا نستطيع أن نعرف الحركة من أي جزء، وهو لا يكمم (من الكمية) لأنّه خالٍ من المادة.
– ينبغي أن يكون بالفعل دائمًا: أي أنّه فعل محض خالص.
– ينبغي أن يكون عقلاً بالفعل وأن يكون موضوع عقله أسمى المعقولات: أي أنّه عبارة عن فكر وعقل، وما دام فكرًا وعقلاً فهو أقرب إلى الأشياء الإلهية.
ومن ثم يعتبر أرسطو أنّ الإله جوهر تتحد فيه الذات بالموضوع، من حيث لا يعقل إلا أشرف الأشياء وأنفسها وهي ذاته، ويتنزه عن عقل ما دونها شرفًا أو نفاسة، لما يدخل ذلك عليه من نقص، فهو والحال هذه عقل يعقل العقل، وإله أرسطو بعد ذلك لا يهمه أمر العالم، وإن كان أمره يهم العالم، ومعناه أنّ الإله إذا اهتم بالعالم تعرض للانفعالات النفسية التي قد تدفعه إلى تغيير رأيه منفعلاً ومتأثرًا، كأن يمتلئ غضبًا أو أن ينعم على من يحب من الناس، أي أنّه يكون ناقصًا، ولكن الإله في فلسفة أرسطو يجب أن يكون كاملاً يسمو على الانفعال والتغير.
ومعنى أنّ أمره يهم العالم، أي أنّه شيء يحبه البشر كافة ويهتمون لأمره ويسعون للتشبه به، لأنّه المعشوق أو المحبوب الأول الذي تصبو إلى كماله سائر الموجودات العاقلة وتطلبه، “إنّ إله أرسطو يشبه قائدًا وقف كالتمثال اعتزازًا بكرامته، وكان هناك عساكر من خشب أخذت تحاكيه على قدر استطاعتها فتنظمت جيشًا حقيقيًّا”[3].
لكن أرسطو لا يقف عند هذا المحرك الذي لا يتحرك، بل يرى أنّه يجب أن يكون هناك محرك آخر يلي المحرك الأول الذي لا يتحرك ويستمد حركته منه، “وهذا المحرك هو السماء الأولى أو فلك النجوم الثوابت الذي يتحرك حركة دورية أزلية”[4]. وهذا المحرك المتحرك يمثل في النظام الأرسطي همزة الوصل بين الموجود الأول (الإله)، الذي لا يتحرك، وسائر الموجودات الخاضعة للحركة بأشكالها، إذ يقول أرسطو في كتاب النفس: “والأول يحرك وليس هو بمدفوع والآخر مدفوع فقط غير دافع، والأمران يلزمان المتوسط، وقد نقول في الاستحالة، إلاّ أنّ المحيل يفعل وهو ثابت في مكانه”[5].
3- إخلاص أرسطو لوحدانية الإله:
معلوم أنّ اليونان كانوا يعتقدون في تعدد الآلهة أي مشركين، وأنّ هذه الآلهة خالدة، وقد كانت الأساطير القديمة تحكي عن ميلاد معظم الآلهة، وعن أعمالهم، وصراعاتهم ومناطق نفوذهم، وأنّ لها جميعًا في الأساس هيأة الإنسان، وهي التي تحكم ظواهر الكون، وتبعًا لتعدد الظواهر الطبيعية تتعدد الآلهة والقوى الخارقة التي تتمتع بها: ديونيزوس إله الخمر والخضرة، وزوس كبير الآلهة، وأورانوس إله السماء، وبوسيدون إله البحر، وهيرا إلهة الزواج والوضع، وأفروديت إلهة الجمال..
“غير أنّ توافر مجموعة من الشروط التي تفاعلت فيما بينها، ما بين القرن الثامن والرابع قبل الميلاد، أدت إلى إحداث قطائع وتباعدات وتوترات داخلية في العالم الذهني للإغريق”[6]، ومجموع تصوراتهم عن آلهتهم الشعبية. لقد تراجع تدريجيًّا الفكر القائم على الميثوس (الأسطورة) لصالح اللوغوس (العقل)، ومن تم انطلق العقل اليوناني باحثًا عن أسرار الوجود وأصل العالم وبداياته انطلاقًا من فكرة المبدأ، “القائمة على إرجاع كل شيء إلى أصل واحد، وشكل ذلك بداية فعل التفلسف وبداية البحث عن الوحدة بل التعدد”[7].
وكان من بين هؤلاء أرسطو الذي اهتم بواحد من أهم فروع الفلسفة وهي الميتافيزيقا، أي العلم بالعلل الأولى للأشياء، وقد أطلق أرسطو أيضًا على هذه الفلسفة اسم الحكمة أو العلم الإلهي، لأنّها تبحث في الموجود الأول أو العلة الأولى، وتبحث في أكثر موضوعات الألوهية، وهى فكرة الإله وصفاته وأفعاله.
لقد جعل أرسطو الإله المبدأ الأول للوجود، وهو لا يتحرك، بل سبب كل حركة، وهو متصف بالكمال لكنّه خال من القوة، ولا يدرك إلا أفضل الموجودات وهي ذاته فقط، هذه الصفات التي ألزمها أرسطو للإله تستلزم منه أن لا يعلم العالم، بحجة أنّ العالم شيء ناقص وفاسد بالنسبة إليه، وأنّ الأشياء توجد وتنعدم، دون أن يريد الإله لها ذلك أو يعلم من أمرها شيئًا، إذا فالإله عند أرسطو منطوٍ على نفسه، جاهل لما يقع في الكون، ولا مريد لما يجري فيه من أحداث، كما أنّه لا يحرك في الكون ساكنًا، فليس هو علة فاعلة في الكون، بل علة غائية، يتحرك الكون شوقًا إليه، فعلاقة الإله بالعالم تنحصر في أن يثير اشتهاء العالم، وباستثناء ذلك فإنّ نشاط الإله يتجه بالكلية إلى داخله هو أي ذاته.
ولذلك استنتج العديد من مؤرخي الفلسفة أنّ إله أرسطو مسكين فقير مغلوب على حاله، لأنّ أرسطو نفى كل تدبير إلهي للعالم أولاً، كما أنّه نفى وحدانية الإله في الكون ثانيًا، ولم يخلص للوحدانية إخلاصًا تاًّما، “فهو يدعو هذه العقول المفارقة آلهة، ويشيد بأجداده من قدماء اليونان الذين نسبوا الألوهية إلى الأجرام السماوية”[8]، حيث وصفها بالعقول المفارقة وشبهها بالمحرك الأول، من حيث أنّها بريئة من المادة وغير خاضعة للكون والفساد، وقد دعا أرسطو هذه المحركات جواهرَ قياسًا لها على المحرك الأول الذي لا يتحرك، “ومع ذلك ظل أرسطو يصر على وحدانية الكون، ووحدانية المحرك الذي لا يتحرك (بالماهية والعدد) أولاً لأنّه الحق التام، وثانيًا لأنّ الكون يرفض أن تحكمه مبادئ عدة”[9]، إلا أنّ أرسطو اعتبر في نظر المؤرخين مشركًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنّه لم يخلص لوحدانية الإله إخلاصًا تامًّا.
ذلك أنّه وعلى الرغم من تأكيده على وحدانية الإله كونه محرك العالم وخالقه، في موضع إلا أنّه لا يلبث أن يضيف إليه حركة الأجرام السماوية بوصفها جواهر، قياسًا لها على المحرك الأول في موضع ثان، دون أن يشوب برهانه تناقض مؤكدًا أنّ المسائل الجدلية تحتمل قولين: “إّن قدم العالم والحركة من المسائل الجدلية التي تحتمل قولين”[10].
وفي “كتاب الفلسفة اليونانية” يستدل صاحبه على شرك أرسطو انطلاقًا مما أورده هذا الأخير في كتابه ما وراء الطبيعة إذ يقول: “لو كان هناك عوالم عدة لكان هناك مبادئ محركة عدة متفقة بالنوع، مختلفة بالعدد، ولكن الموجود الأول بريء عن المادة، فلا يمكن أن يكثر من حيث أنّ المادة هي التي تكثر الصور، فالمحرك الأول واحد والعالم واحد”[11]. لقد خالف أرسطو مبادئه في هذه المسألة، “وخرج على التوحيد اللازم من مذهبه، لنفس السبب الذي جعله يتشبث بقدم العالم وهو أنّ الإله يفعل ضرورة لا اختيارًا وأنّ الفعل الضروري غير محدود إلى مفعول واحد، فكان مشركًا بأدق معنى الشرك.”[12]
5- امتداد فكرة الإله الأرسطي داخل الفكر الغربي:
وجد الغرب إبان نهضته الأولى غاياته في الكتابات الأرسطية، مشروحة ومفسرة في مؤلفات ابن رشد، خصوصًا ما تعلق منها بمركزية الكون وهيراركيته، بحيث جعلوا أوروبا مركز العالم وأهم جزء فيه، والباقي مجرد تابع يدور في فلكه، كما اقتبسوا فكرة الإله المنشغل عما يحدث في العالم، وفكرة نفي التدبير الكوني عنه، فتصرفات رجال الكنيسة، وتضييقهم الخناق على العقل، والفكر الحر، وتواطؤهم مع ذوي السلطة والمال، على حساب الطبقات الكادحة، هي التي ولدت الكراهية والامتعاض ضد الدين وتعاليمه، مما أدى بالكثير من الفلاسفة والمفكرين إلى تبني أفكار مناهضة للدين، وقراءات مناقضة للوحي الإلهي، إذ ذهبوا أبعد بكثير وروجوا لنهاية الإله، “لكن موت الإله المجرد أمر لا يقبله العقل، ولكن في إطار حلولي يصبح الأمر منطقيًّا، فالحلول الإلهي يأخذ درجات منتهاها وحدة الوجود حيث يتجسد (يحل) الإله تمامًا في الطبيعة وفي أحداث التاريخ”[13]، ويتوحد مع الإنسان ومع مخلوقاته، “ويصبح كامنًا فيهما تماشيًا مع مقولات أرسطو العقلية، إذ يقول هذا الأخير في كتاب النفس: “فهو إذا اتصل بنا عقل المعقولات التي هاهنا، وإذا فارقنا عقل ذاته”[14]، ولكن لحظة وحدة الوجود هي نفسها اللحظة التي يصبح الإله فيها غير متجاوز للمادة، ومعنى ذلك موت الإله وغيابه، وهي الفكرة التي روج لها العقل الغربي ودافع عنها بشدة، “فالإله قد مات” كما أعلن نيتشه، و”الدين أفيون الشعوب” كما قال ماركس.
وعندما غاب الإله عن الكون وركن إلى الرف ليعقل ذاته فقط، وكف عن الحضور في الوعي الغربي، كان لزامًا على العقل أن يأخذ زمام المبادرة، ويخضع كل شيء لتوجيهاته الخاصة دون غيره، فأصبح الإنسان هو السيد، وهو مركز الكون، وهو الذي يحدد الخير وفق مصالحه الآنية، ويحدد ما هو الشر وفق معاييره الدنيوية، أضف إليه أنّ الإله عندما غاب عن الحضور، رحلت الروح عن الإنسان، فالروح مصدرها رباني، وأصبح – أي الإنسان – محكومًا بسلطان الجسد، ومتمحورًا حول الأشياء، ومنتهى ما يطمح إليه هو تحقيق الملذات، وإشباع الشهوات والرغبات، ومن ثمّ ارتفعت عاليًا في سماء الفكر الغربي مفاهيم من قبيل الحرية والإرادة، والفرد والفردانية، والسعادة والرفاه، وتحول الإنسان الغربي نحو الحياة الدنيوية والمادية والاستهلاكية.
هكذا إذن قامت الحضارة الغربية وتقوت انطلاقًا من إعلان العداء التام للفكر الديني، خاصة حضور الإله في الكون وتدبيره له ولمصير الإنسان، وأسست لصرح فكري وضعي جديد، يقر إقرارًا صريحًا بحرية الإنسان وامتلاكه للإرادة، أي امتلاكه القدرة على الفعل والتدبير، وبلوغ الحقائق وصُنعها.
بيبليوغرافيا:
لائحة المصادر:
– تلخيص كتاب الجدل، ابن رشد، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور تشارلس بتروث، شارك في التحقيق الدكتور أحمد المجيد هريدي، الهيأة المصرية العامة للكتاب القاهرة، 1979م.
– تلخيص كتاب النفس، أبو الوليد ابن رشد، تحقيق وتعليق الفرد ل عبري، مراجعة محسن مهدي، تصدير إبراهيم مدكور، مطابع الجمعية المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1994م.
لائحة المراجع:
– أرسطو والمرأة، إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة الفيلسوف والمرأة، مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع، ط 1 1996م.
– أرسطو المعلم الأول، ماجد فخري، سلسلة قادة الفكر، المطبعة الكاثوليكية – بيروت، بدون ذكر الطبعة والسنة.
– الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، عزت قرني، تنفيذ وإخراج وطبع ذات السلاسل، جامعة الكويت، 1993م.
– الفلسفة الغربية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري، دار الفكر المعاصر، سوريا 2013م.
– تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، السلسلة الفلسفية، مطبعة لجنة التأليف والنشر، 1300هـ – 1936م.
– نشأة الفلسفة في فترة المأساة الإغريقية، فريدريك نيتشه، دار النشر غاليمار، 1977م.
[1] أرسطو والمرأة، إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة الفيلسوف والمرأة، مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع، ط 1، مصر 1996م، ص 29
[2] أرسطو المعلم الأول، ماجد فخري، سلسلة قادة الفكر، المطبعة الكاثوليكية- بيروت، بدون ذكر الطبعة والسنة، ص 94
[3] تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، السلسلة الفلسفية، مطبعة لجنة التأليف والنشر، بدون ذكر الطبعة، 1300هـ – 1936م، ص 37
[4] أرسطو المعلم الأول، ماجد فخري، مرجع سابق، ص 95
[5] تلخيص كتاب النفس، أبو الوليد ابن رشد، تحقيق وتعليق الفرد ل عبري، مراجعة د. محسن مهدي، تصدير ا د إبراهيم مدكور، مطابع الجمعية المصرية العامة للكتاب- القاهرة بدون ذكر الطبعة، القاهرة 1994، ص 83
[6] جون بيير فرنان، الأسطورة والمجتمع في الإغريق القديمة، ماسبيرو، باريز، 1974، ص 196
[7] فريدريك نيتشه، نشأة الفلسفة في فترة المأساة الإغريقية، دار النشر غاليمار 1977، ص ص 34-35
[8] أرسطو المعلم الأول، ماجد الفخري، مرجع سابق، ص 98
[9] الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، عزت قرني، جامعة الكويت 1993م، تنفيذ وإخراج وطبع ذات السلاسل، بدون ذكر الطبعة، ص 135
[10] تلخيص كتاب الجدل، ابن رشد، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور تشارلس بتروث، شارك في التحقيق الدكتور أحمد المجيد هريدي، الهيأة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1979م، ص 22
[11] المرجع نفسه، ص 231
[12] المرجع نفسه، ص 234
[13] الفلسفة الغربية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري، دار الفكر المعاصر، سوريا 2013، ص 175
[14] تلخيص كتاب النفس، أبو الوليد ابن رشد، ص 120
___________
*المصدر: مؤمنون بلا حدود
*المصدر: مؤمنون بلا حدود