مؤنس الرزاز.. السياسي حينما يكون أديبًا (4)



*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
الحلقة الرابعة والأخيرة
1
كان لجبل اللويبدة مكانة كبيرة في نفسه، عاش مؤنس في عدد من بيوت هذا الجبل. وفي هذا الجبل شهد بعض المسرات وشهد الكثير من الألم. في هذا الجبل كانت له اجتماعات وندوات ومواقف وتأملات. كان بيت صديقه الدكتور في هذا الجبل. رابطة الكتاب في هذا الجبل. فندق “الكناري” الذي لطالما تردد عليه مع عدد من أصدقائه الكتاب في هذا الجبل.
في واحد من نصوص اعترافاته التي نشرها قبل وفاته، كتب مؤنس عن جبل اللويبدة قائلاً: “جبل اللويبدة مركز محيط دائرة حياتي المفرغة. ثمة عائلات من عمان الشرقية حسنت أوضاعها المادية فانتقلت إلى جبل اللويبدة. ملامح الجبل تتغير، تغذ الخطوَ مع خطواتي نحو شيخوخة مبكرة وهبوط طبقي واضح. كيف ارتبط مصيري بمصيرك أيها الجبل المكدود؟ سوف أغادر معمعان القتال بعد أن خسرت كل معاركي وربحت حربي، سأقطع خط الهاتف، وأعطب جرس الباب، فاعذروني”.
ويضيف كما لو أنه يتوقع حلول النهاية في وقت قريب “أعتذر من البشرية كلها عن وجودي، عن إشغالي حيز قدمين على هذه الكرة الأرضية، أعتذر عن كميات الهواء التي تنشقتها، فقد كان غيري من أصحاب مرض الربو أو سرطان الرئة أولى بها والله أعلم”.
2
وأنا أعيد قراءة “جمعة القفاري” لاحظت كيف يستفيد مؤنس من التفاصيل اليومية، ويطوّعها لتصبح إشارات دالة في عمله الروائي. يستفيد من إغلاق مقر رابطة الكتاب الذي أقدمت عليه الحكومة أواخر الثمانينيات، يستفيد من فضيحة بنك البتراء، من حذلقات بعض المثقفين في الجلسات والندوات واللقاءات، من انتهازية بعض الطامحين في المناصب، ومن الدخول في عصر الديمقراطية الأردنية الذي أنهى فترة طويلة من الأحكام العرفية. 
يتناول مؤنس هذه التفاصيل، ويوظفها بذكاء في نصه الروائي، فلا تبدو نافرة مملة، لأن “مؤنس” يضعها في إطار فني يتشكل من شخصيات فنية لها حضورها، ومن تقنيات روائية تتراوح بين السرد الساخر والهلوسات المحمومة والقفشات القريبة من الروح الشعبية المحلية، ومن اللغة التي تخالطها شاعرية عذبة حينما تكون فصيحة متأثرة بالسرديات التراثية، وتتلبسها ظلال ثرية حينما تقترب من مفردات اللهجة العامية المحملة بكنوز التجربة ومرارة المعاناة. علاوة على الاستفادة من الأحلام والكوابيس التي تثري السرد، وتمنح الروائي فضاء متسعاً للتنقل فيه بحرية وانطلاق. وكذلك التناوب في عملية السرد بين مختلف الضمائر للشخصية الروائية الواحدة، بضمير الغائب مرة وبضمير المتكلم مرة أخرى وبضمير المخاطب مرة ثالثة.
وأنا أعيد قراءة الرواية، لاحظت كيف يستفيد مؤنس من ثقافته ويطوعها لخدمة مشروعه الروائي. كيف تسعغه ثقافته التراثية في تلوين أسلوبه السردي بمرويات لافتة للانتباه، وبرؤى ولطائف وأفكار. كيف تسعفه ثقافته الحديثة في الاستفادة من قراءته لجيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فوكنر، الذين تفننوا في ابتداع أسلوب التداعي الحر أو تيار الوعي. كيف يستفيد من قراءته لرواية “دون كيخوته” لثيربانتس، وتحويل بطلها إلى بطل روائي عربي أردني اسمه “عون الكياشطة”، الذي لم يظهر في الرواية التي تبشر بظهوره، لأن الرواية التي سيكتبها جمعة القفاري لم تكتب، لكن جمعة نفسه صاحب الحلم بكتابة هذه الرواية، يحمل في تصرفاته وفي سلوكه وفي مزاجه وفي عدم فهم الآخرين له وفي طيبة قلبه وسذاجته، الكثير من ملامح دون كيخوته أو عون الكياشطة المنتظر. كما لاحظت كيف يستفيد مؤنس من قراءته لرواية “المتشائل” لإميل حبيبي وما تزخر به من سخرية ومن تطويع لوقائع الحياة اليومية، والسمو بها عبر المعالجة الفنية البارعة إلى ذرى جديدة. لاحظت كيف استفاد مؤنس من ذلك كله، وصهره في بوتقة معاناته العميقة، وإبداعه الأصيل، ليشكل منه رواية تحمل سماته الخاصة، وتنتسب إلى مشروعه الروائي الذي رعاه بأرق الأعصاب وتوتر المشاعر وجهد العقل. 
وأنا أعيد قراءة “جمعة القفاري” لاحظت كيف يبدو مؤنس مثقلاً بالمعاناة، بسبب ما يصف به بطل روايته، الذي يعبر عن مزاج مؤنس نفسه على هذا النحو أو ذاك، من عدم قدرته على التكيف. كيف يبدو راغباً في الخلاص من هذا الدور الذي يلعبه على مسرح الحياة. كيف يستعجل إسدال الستارة على هذه المسرحية التي يشارك فيها بأدوار متعددة (هل يمكن اعتبار فاضل القفاري وجهاً آخر لجمعة القفاري؟). كيف يستعجل قدوم الموت المعبر عنه مجازياً بإسدال الستارة! أو الدخول في فصل مؤلم جديد يقرره مخرج المسرحية دون أن يستشيره في شيء. كيف “كان قلبه يخفق بعنف، ورأسه يضج بالقلق والأمل وهو يبتسم ابتسامته العريضة!” ص218
هل كان مؤنس يقصد القلق من الدخول في فصل مؤلم جديد؟ ربما. هل كان يقصد الأمل في إسدال الستارة والانتهاء مرة واحدة وإلى الأبد من الألم؟ ربما، أو على الأرجح، فإن هذا هو المقصود.
3
كتبت في دفتر اليوميات:
ذهبت إلى رام الله هذا الصباح. اقتربت من حاجز قلنديا العسكري، أوقفت سيارتي خلف سرب طويل من السيارات. هنا يُحكم العسكر سيطرتهم على المكان. هنا أتعذب كل يوم وأنا ذاهب إلى عملي. أنتظر ساعة أو ساعتين قبل أن يسمحوا لي بالمرور. يجيئني صوت مؤنس من إذاعة مونت كارلو. يتحدث عن الأدب، وعن الكتابة وعن هموم الحياة. يتحدث عن ابنته التي أصبحت صبية لها رأيها في أمور كثيرة.
مؤنس يتحدث بصوته الرخيم، يتحدث بتؤدة ووقار.
كانت مونت كارلو تعيد بث حديث طويل أجرته معه قبل الغياب.
__________
*روائي وقاص فلسطيني. 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *