بيكاسو وجيلو.. العجز عن تجنب الحب


*غيث خوري


كانت الحياة جميلة بالنسبة لبيكاسو خلال عشر سنوات من الحب مع فرانسوا جيلو، كان بيكاسو في ال 60 من عمره حين التقى جيلو في مقهى كتالان في باريس، وكانت هي في ال 23 من عمرها.
بدأت علاقة الحب بين بابلو بيكاسو وفرنسوا جيلو، في باريس عام 1943، خلال الاحتلال الألماني لفرنسا، وكانت جيلو طالبة في كلية الفنون، وابنة وحيدة لأب متسلط، أراد لها أن تسير على نهجه في دراسة العلوم، إلا أن جيلو كانت منجذبة نحو الفن منذ طفولتها، وكانت ترى أن الرسم هو كل حياتها، فرفضت الخضوع وآثرت دراسة الفنون، ومع مزاجها المتمرد وجدت في بيكاسو الرفق وعمق الفهم، حيث إنه لم يكن في حياتها رجل آخر قبله.
تصف جيلو العشر سنوات مع بيكاسو بأنها كانت حميمية من جهة، وندية من جهة أخرى، وخلال هذه العلاقة… عمل الفنانان جنباً إلى جنب يتشاركون التحديات والأفكار نفسها، وحتى بعد أن انفصلا عن بعضهما، ودخل كل منهما في علاقة حب جديدة، إلا أن الشعور بالخسارة كان حاضراً، فقد كانت نهاية شغف عظيم.
كان بيكاسو يطلب من فرانسوا السهر معه لأوقات متأخرة لمناقشة أعماله والجدل حولها، حيث إن استقلاليتها وصراحتها وتبصرها سحرت بيكاسو وأزعجته في الوقت نفسه، وغذت شهيته النهمة للحياة.
حين بدأت العلاقة بينهما كانت جيلو تدرك مدى شهرة بيكاسو وتأثيره في العالم، فهو صاحب الأعمال المبهرة والرائدة، وظهرت أهم إنجازاته للوجود عام 1937، وهي اللوحة الجدارية الضخمة «غرنيكا» التي يعتبرها أغلب النقاد واحدة من أهم الأعمال الفنية الفردية في القرن ال 20 استلهمها بيكاسو من قصف الطيران النازي الألماني لقرية غرنيكا الباسكية شمال إسبانيا بطلب من الديكتاتور الإسباني فرانكو، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، إلا أنها كانت ترى نفسها كفنانة مستقلة، ورفضت أن يطغى ظل بيكاسو عليها، فبدأت تخط تجربتها الفنية عبر العديد من التجارب والبحث الفني، وقد أثنى بيكاسو على لوحاتها، في المرة الأولى التي شاهد فيها أعمالها.
كانت حياة بيكاسو مع النساء متقلبة كثيراً، فقبل جيلو عاش بيكاسو علاقات عاطفية عدة انتهت في الأغلب بشكل كارثي، حيث كان لمزاجه المتقلب وحدة طباعه، وتطلبه الدائم أثراً سلبياً على كل من أحب، وتعد جيلو أول من تجرأ على ترك بيكاسو رافضة أسلوب الحياة الذي كان يفرضه، فغادرت بصحبة ابنيهما «كلود» و«بالوما» لتنطلق في حياتها من جديد.
تقول جيلو: «أعتقد بصراحة لو أنني قابلت بيكاسو في أوقات السلم لما كان حدث شيء بيننا» فمعظم الرجال الذين يماثلوه في العمر كانوا قد ذهبوا للحرب، إضافة للاحترام الذي كانت تكنه لبيكاسو كفنان، فضلاً عن أنه رفض مغادرة فرنسا أيام الاحتلال النازي، ومع أنها كانت مدركة لتاريخ بيكاسو مع النساء، إلا أنها لم تخف خوض غمار هذه العلاقة التي وصفتها في كتبها «الحياة مع بيكاسو» بأنها «كارثة لم أرغب في تجنبها».
خلال الحرب العالمية الثانية بقي بيكاسو في باريس بعد احتلال الألمان لها، وقد واجهته مشكلات بسبب مناهضته للفكر النازي، ولذلك لم يعرض لوحاته في تلك الفترة، وبعدها بقليل بدأ يرسم لوحات جديدة مثل لوحته الشهيرة «حياة ساكنة مع الجيتار»، ولوحة «مقبرة تشارنيل» التي رسمها في عام 1944، وكان يستخدم في أعماله البرونز الذي كان ممنوعاً من قبل النازيين في تلك الفترة إلا أنه كان يهربها بمساعدة المقاومة الفرنسية.
وأثرت هذه الفترة التي قضاها مع جيلو، التي جلبت نوعاً من الاستقرار والهدوء إلى حياته، فيه فقد أصبح رسمُ بيكاسو ونحْتُه وخزَفيَّاته أكثر استرخاء ولُطفاً، وظهر كأنه يصنع السلام بالعواطف التي طالما عذبته في الماضي. ويشعر بعضُ النقاد أنّ هذا النهج الجديد خلد أحسن أيام فنه. ويشعر الآخرون أن هذه الفترة مثلت انطلاقة جديدة في مغامرات بيكاسو المرئية والذهنية في الفن.
كان لأعمال بيكاسو في الأربعينات والخمسينات تأثيراً كبيراً في الفنانين حول العالم، ويمكن ملاحظة تأثر جيلو القوي به من خلال أعمالها التي مزجت بين التجريد والتشكيل، والألوان العميقة المشبعة، والعنف العرضي في أشكالها المتصادمة.
في عام 1964 أصدرت جيلو كتاباً بعنوان «الحياة مع بيكاسو» تحدثت فيه عن تفصيل حياتهما منذ اللقاء الأول في مقهى كاتلان، ورغم انزعاج بيكاسو ومحاولته القانونية لمنع هذا الكتاب من الصدور إلا أنه فشل في ذلك، وقد بيع من هذا الكتاب ملايين النسخ، وترجم إلى عدد كبير من اللغات.
_______
*المصدر: الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *