*محمود شقير
خاص ( ثقافات )
الحلقة الأولى
1
كان اسماً بارزاً في الحزب، ربما لأنه ابن القائد الدكتور منيف الرزاز الذي شغل موقع الأمين العام للحزب في دمشق والأمين العام المساعد في بغداد، وربما كان هذا الأمر سبباً من أسباب الأزمة الداخلية لمؤنس، فهو لم يكتسب مكانته في الحزب بسبب تدرجه في المواقع الحزبية المختلفة، أو بسبب جهوده الخاصة داخل التنظيم الحزبي، وإنما على الأرجح بسبب مكانة والده المرموقة. ولم تكن تنقصه المؤهلات الفكرية والنضالية، لكي يتبوأ المكانة التي تليق به داخل الحزب. إلا أن مكانة والده غطّت على كل شيء خاص به، فأصبح ملحقاً بوالده شاء ذلك أم أبى.
وكان إلى ذلك، على مقربة من امتيازات السلطة بسبب مركز والده. كان بوسعه أن يتنعم بهذه الامتيازات وما تتيحه من نفوذ ومكاسب وسلطان وجاه، لكنه كان زاهداً في هذه الامتيازات نافراً منها فيما أعلم، وربما كان هذا أيضاً سبباً من أسباب أزمته الداخلية. (في رواية “سلطان النوم وزرقاء اليمامة” التي نشرها مؤنس العام 1997 ثمة ما يوحي بتذمره من هذه المكاسب التي تأتيه دون تعب، وعلى نحو يزعزع استقراره الداخلي، فهو يتحدث عن أحد شخوص الرواية واسمه علاء الدين قائلاً: “فإذا انضم علاء الدين إلى نقابة من النقابات، سحر أعضاء النقابة بذلك الشيء الذي يسمونه “الكاريزما”، فضغط عليه الأعضاء ليرشح نفسه لرئاسة النقابة من فوره، ويستقيل رئيس النقابة إكراماً له. وتعقد النقابة مؤتمراً استثنائياً في سبيل انتخابه رئيساً” ص12)، وبعد صفحة واحدة من ذلك، نقرأ رغبة علاء الدين التي هي كما يبدو رغبة مؤنس نفسه: “لكن الرجل كان يرغب في أن يعيش حياة طبيعية”.
مات مؤنس بعد أن كان خلال سنوات عمره الخمسين، شاهداً على عصره العربي الغاص بالانهيارات. ومنذ أن أصدر روايته الثانية “اعترافات كاتم صوت” أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، بدا واضحاً أنه معني بفضح الأنظمة الشمولية.
ويبدو أنه كان يسابق الزمن ويستبق ساعة الموت. أصدر خلال سنوات قليلة عدداً غير قليل من الروايات التي اغترفت مادتها الخام، من همومه الشخصية الممتزجة بمآسي أمته.
مؤنس الذي أصدر هذا العدد من الروايات، كان على وشك الدخول في تجربة إبداعية جديدة اسمها أدب الاعترافات، أشار إليها في الحوار الذي أجرته معه مجلة “صوت الوطن” الفلسطينية، قبل شهرين من وفاته، ونشر بعض مشاهد من هذه التجربة في مجلة “أفكار” الأردنية.
مؤنس الذي كان له نشاط سياسي مباشر خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، ثم لم يواظب عليه رغبة منه في التفرغ للكتابة، مؤنس الذي كان بيته في عمان محجاً لنا نحن الذين انخرطنا، ومعنا مؤنس، في نشاط نقابي في رابطة الكتاب الأردنيين طوال عقد الثمانينيات، مؤنس الذي رحل بمثل هذا الاستعجال، ترك في قلبي جرحاً نازفاً.
وها أنذا كلما فقدت صديقاً، شعرت بأن موت أصدقائي يبتليني بالنقصان.
2
التقينا أوائل الثمانينيات.
عاد إلى عمان قادماً من بيروت. بيروت مدينة أحبها كما أحب عمان، وقد تبدى هذا الحب للمدينتين في كتاباته المختلفة. سمعت عدداً من الأصدقاء الكتاب وهم يرددون اسمه في مودة واحترام. قبل عودته، أصدر روايته “أحياء في البحر الميت” التي نالت استحسان النقاد. الرواية لم تكن وصلت إلى عمان، أو ربما وصلت ولم يكن لديّ علم بوصولها.
التقيته في مقر رابطة الكتاب. تعارفنا، وكنت معنياً بأن يكون أحد الناشطين في الرابطة لما له من مكانة وتأثير. وبدا أنه هو الآخر معني في تلك الفترة بالمشاركة في أنشطة الرابطة. كان يتسم بهدوء مشوب بالحزن، ولم يكن مترفعاً. كان ودوداً، وهو من الناس الذين تألفهم بسرعة وتطمئن إليهم.
تعددت اللقاءات بيني وبينه، في مقر الرابطة، في بيته الكائن في جبل اللويبدة، في بيت عدي مدانات، في بيت يوسف ضمرة، وفي بيوت أصدقاء آخرين. كان يجمعنا همّ الرابطة وهم الكتابة والسياسة.
أصبح اسماً مرموقاً في مجموعتنا النقابية. كان إنساناً مرهف الإحساس، معنياً بأن يظل على صلة بأصدقائه. كنا مجموعة من الأصدقاء نلتقي في العديد من الأمسيات، ويكون هو معنا فيها على الأغلب. نلتقي ولا نمل تلك الأمسيات التي كانت تجمعنا إلى وقت متأخر في الليل. نتحاور، نضحك، نحزن، نتألم، نختلف، نتفق، لا نتفق، ثم نتفرق على أمل اللقاء من جديد.
3
كانت الحياة الثقافية في عمان تشهد انطلاقة ما أوائل الثمانينيات، مقارنة بما كان عليه الحال في النصف الأول من السبعينيات. رابطة الكتاب ومؤسسات ثقافية أخرى تقوم بأنشطة ثقافية مستمرة، والمكتبات تنشط في بيع الكتب، وكشك حسن أبو علي وسط البلد، له مكانته في نفوس عدد غير قليل من المثقفين الذين يجوبون شوارع العاصمة عصر كل يوم، ثم يتوقفون كثيراً أو قليلاً عند الكشك. يشترون كتباً وينهمكون بعض الوقت في التحدث مع صاحب الكشك الذي يتحدث بحماسة عما لديه من كتب، كما لو أن هذه الكتب لا يتوافر مثلها في بقية المكتبات، وكما لو أنها هي الكفيلة دون غيرها، بحل معضلات الوطن العربي التي تتفاقم يوماً بعد يوم.
حتى كتب لينين، ورغم عدم توافر الديمقراطية في الأردن حتى ذلك الحين، كان حسن أبو علي يعرضها في كشكه، ولا أدري كم كان حظها من اهتمام القراء والمثقفين؟ (ظهر اسم حسن أبو علي في عدد من النصوص الأدبية التي كتبها أدباء أردنيون، وقد جاء ذكره في رواية مؤنس “سلطان النوم وزرقاء اليمامة” حينما أجرى لقاء بين زرقاء اليمامة وحسن أبو علي: “انتبهت زرقاء اليمامة إلى صوت رجل طيب يرحب بها، ويعرب عن شوقه وشوق الناس إليها، التفتت فإذا هو “أبو علي” صاحب كشك الكتب والمجلات والصحف. حدثته بما رأته قبل قليل. ضرب كفاً بكف وقال: العالم فقد عقله.. ص117″.
وكان للمثقفين عدد من المقاهي التي يجلسون فيها لشرب الشاي والقهوة والعصير، وللثرثرة أو لكتابة قصائد وقصص، ولقراءة الصحف وتصفح الكتب. أغلب هذه المقاهي كان وسط البلد، ربما لأن صخب الحياة في عمان متمركز كله هناك. ومن أشهر هذه المقاهي مقهى “شهرزاد” الواقع في أول شارع السلط. مثقفون آخرون اتخذوا من صالات الاستقبال في بعض الفنادق أمكنة لهم للكتابة وللقراءة ولتمضية وقت مريح.
وعمان كانت مثيرة للانتباه بجبالها ووديانها وبشوارعها المزدحمة وأسواقها العامرة، وبكثرة المتسوقين فيها. وكانت مثيرة للانتباه بطفرة العمران التي بدأت تعبر عن نفسها على شكل بنايات فخمة للسكن أو لمكاتب الشركات، وظلت تنتشر في السهول والهضاب المحيطة بالمدينة، حتى أصبح وسط البلد يجد منافسة شديدة من الضواحي الجديدة، خصوصاً حي الشميساني وشارع وصفي التل ومنطقة المدينة الرياضية، حيث قصر الثقافة والمركز الثقافي الملكي.
كان مؤنس يجوب المدينة دون كلل، كما لو أنه يستذكر فيها أيام طفولته وصباه. وكانت المدينة محببة إلى نفسه. عاد إليها وفي قرارة نفسه قرار بالبقاء فيها، بعد أن جرب الحياة في مدن كثيرة.
عاد إلى عمان، وأصبح أحد أعضاء الهيئة الإدارية للرابطة، ورئيساً لها فترة من الوقت. أبدى غير مرة ضيقه من العمل النقابي، كلما لاحظ ما تتسم به أمزجة بعض الكتاب من حدة ونزق. كان حريصاً على الكتابة دون انقطاع. وحينما فاجأنا بروايته “اعترافات كاتم صوت”، وبروايته التي تلتها “متاهة الأعراب في ناطحات السراب” بدا واضحاً أن كتابته الروائية تتوفر على منظور فني متقدم، ما يعني أن تفاعله مع الثقافة العربية ومنجزاتها كما شهدتها بيروت وغيرها من العواصم العربية، مكّنه من كتابة روايات ناجحة فيها قدر غير قليل من المغامرة الفنية والتجريب.
شكل منذ عودته إلى عمان حالة ثقافية متقدمة، وكان يحتفي بأي نتاج ثقافي جيد. نشرتُ ذات مرة مجموعة من القصص القصيرة جداً في صحيفة “الشعب” الأردنية، وأنا متخوف من ردود الفعل عليها. جاءني رد الفعل الأول منه، هاتفني بعد قراءته للقصص وأبدى إعجابه بها. كان ذلك سبباً لكتابة عدد كبير من القصص القصيرة جداً التي ظهرت فيما بعد في كتاب، كتبَ مؤنس على غلافه الأخير تقريظاً ما زلت أعتز به حتى الآن.
حفل النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، بالكثير من التفاصيل الحميمة واللقاءات والأنشطة التي جمعتنا معاً. تعامل مؤنس وهو ابن الفكرة القومية، مع أصدقائه القادمين من تيارات سياسية أخرى دون تحفظ أو قلق. انطلق يرسخ علاقات التلاقي والحوار بين المثقفين والكتاب، وحقق نجاحاً طيباً في هذا المضمار.
وكان مؤيداً للأفكار العلمانية (في كتابه “فاصلة في آخر السطر” يقول على لسان “خليفة” الشخص المتزمت، وهو يسخر بشكل مبطن من كلامه: “سأحظر الموسيقى (..) كل ألوان الموسيقى الغربية. سأمنع بيتهوفن وباخ وموزارت أيضاً. سأفرض حظراً على الصحون اللاقطة) ص91، ويبدو لي أن وعيه الحاد على أوضاعنا المفجعة، هو أحد الأسباب التي قادته أخيراً إلى اختيار العزلة لمواصلة الإبداع.
كانت لنا أيام بهيجة في عمان، ومع ذلك، كانت الأحزان تأتي على غير ميعاد. يموت والده وهو تحت الإقامة الجبرية، نسير خلف نعشه بالألوف، نقطع شوارع عمان متجهين نحو جنوب المدينة لنواريه الثرى، وها هو ذا صديقنا، مؤنس، يمشي خلف النعش القادم من بغداد، وقد انضاف إلى آلامه ألم جديد.
وتمضي رحلة الحياة إبان الثمانينيات، نتمشى في شوارع المدينة في الأمسيات الرائقة. نتردد على مقر الرابطة كالمعتاد، نتفق على هذه القضية أو تلك، ونختلف على قضايا أخرى، ونمضي مبتعدين، نذهب إلى أمكنة عديدة، نزور شيخنا المناضل الذي أقعده المرض. مؤنس هو الذي قدمني إلى ذلك المناضل الذي أخذ اسمه يملأ الأسماع، منذ أن رشحته الجبهة الوطنية لانتخابات البرلمان الأردني أواسط الخمسينيات من القرن الماضي. ثم نذهب إلى ذلك الفندق الحميم، فندق “الكناري” الذي اعتاد بعض أصدقائنا الجلوس في صالته للكتابة، ولعقد اللقاءات التي يطيب فيها السمر.
ونذهب إلى أمكنة أخرى، نذهب إلى نادي السينما الذي ابتدأ عروضه الأولى في سينما الرينبو بجبل عمان، ثم أصبح يقدم عروضه في إحدى قاعات المركز الثقافي الملكي. نذهب إلى بيت مؤنس في جبل اللويبدة أو إلى بيت عدي مدانات في ماركا، نتسامر ونتحاور في شؤون النقابة أو في شؤون الثقافة والسياسة، ثم نتفرق بعد ذلك عائدين إلى بيوتنا عند منتصف الليل أو بعده بقليل.
ويأتي إلى بيته المثقفون والكتاب والسياسيون، يرحب بهم جميعاً، ويسعد بقدومهم إليه. كان حسن المعشر، مهذباً، لا يميل إلى الثرثرة ولا يتكلم إلا عند الضرورة، وحينما يتحدث يأسرك بصوته الذي يخرج هادئاً رصيناً من بين شفتيه المحاطتين بشاربين كثين. كانت له ضحكة خاصة تنم عن فيض من البراءة والصدق، وحينما يضحك ينطبق جفناه على عينيه، وتشيع في وجهه علامات فرح، فرح من النوع الطفولي المليء بالاندهاش. كان جاداً أكثر وقته، وفي بعض الأحيان، حينما يكون رائق المزاج، يأتي كلامه محمّلاً بالسخرية.
غير أنه كان يتعذب رغم هذه السخرية، ورغم الضحكة التي تميزه. من يقرأ أدب مؤنس يدرك مقدار ألمه الشخصي وأساه، ومن يقرأ اعترافاته التي نشر جزءاً منها في مجلة “أفكار” يدرك مقدار المعاناة التي كابدها الرجل، ومن كان على مقربة منه أوائل التسعينيات يلاحظ أن همومه الخاصة متداخلة مع الهم العام، وأن ما يتسم به مؤنس من رهافة مفرطة في مشاعره وأحاسيسه يجعله قلقاً على الدوام.
غادرت عمان العام 1987 إلى الجزائر مع عدد من الزملاء الكتاب، لحضور المؤتمر التوحيدي للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، سافرت وأنا أصطحب معي رواية مؤنس التي صدرت آنذاك “متاهة الأعراب في ناطحات السراب”، تنقلت معي هذه الرواية في عدد من البلدان بعد أن طال غيابي مدة زادت عن ثلاث سنوات (لم أعرف عمق علاقتي بعمان إلا بعد أن غادرتها إلى براغ. اكتشفت وأنا أعيش أيامي الأولى في براغ، كم كان الفراق صعباً! حتى إنني لمت نفسي لأنني غادرت عمان للإقامة في هذه المدينة الأوروبية. استعنت بكتابة الرسائل للتخفيف من أثر الفراق وما يستتبعه من قلق (لم أكن أعرف الكمبيوتر ولا الإنترنت آنذاك). داومت على كتابة الرسائل لمؤنس ولعدد آخر من الأصدقاء. أرسلت لمؤنس عدداً من الرسائل، وأرسل مؤنس لي رسائل مماثلة. كان يوافيني أولاً بأول بأخبار كتابي “طقوس للمرأة الشقية” الذي ضاعت مخطوطته في المطبعة، وتأخر صدوره. وكان يتابع هذا الأمر نيابة عني مع الكاتب علي حسين خلف، مسؤول دار ابن رشد في عمان، وظل مواظباً على المتابعة حتى صدر الكتاب. لم تستمر مراسلاتي مع مؤنس وقتاً طويلاً. وقعت هذه المراسلات في الأشهر الأولى لإقامتي في براغ، ثم ما لبثت أن انقطعت بشكل تلقائي كما يحدث في حالات كثيرة مشابهة بين الأصدقاء).
ثم عدت إلى عمان صيف العام 1990، التقيت “مؤنس” وبقية الأصدقاء من جديد. كنا نعاود سيرتنا الأولى، إنما على فترات متباعدة. نلتقي في بيت مؤنس وفي بيوت عدد من الأصدقاء، ونواصل تكريس ما تيسر لنا من وقت للشأن الثقافي. آنذاك، وفي ربيع العام 1991، احتفلت رابطة الكتاب بتوزيع جوائزها السنوية في إحدى قاعات المركز الثقافي الملكي، وقف مؤنس هناك، ليلقي كلمة بمناسبة نيله جائزة تيسير سبول للرواية، وشارك في الحفل نفسه إبراهيم نصر الله الذي نال جائزة عرار للشعر، ومن حسن حظي أنني شاركت في الحفل نفسه مع هذين الصديقين، حين منحتني الرابطة جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة. إنها أيام لا يمكن نسيانها.
ولم تنقطع أخباره عني بعد عودتي إلى القدس المحتلة ربيع العام 1993. كنت أتابع بالقدر الذي تتيحه لي ظروف الحصار، بعض ما يصدره مؤنس من كتب جديدة، وما ينشره في الصحف الأردنية وفي مجلة “أفكار” من مقالات ونصوص، وكنت أتابع ما يُنشر عنه في صحافة فلسطين ودورياتها، وأنشر ما يردني من مقالات نقدية عنه أو حوارات معه، في مجلة “دفاتر ثقافية” وفي مجلة “صوت الوطن” اللتين كانتا تصدران في رام الله.
جئت ذات مرة زائراً إلى عمان بعد انقطاع. لم ألتق “مؤنس”. عرفت أنه اختار العزلة. هاتفته قبيل مغادرتي عائداً إلى القدس. أبدى أسفاً حقيقياً لأننا لم نلتق. قلت له: أعدك بأننا سنلتقي في المرة القادمة. مات قبل أن نلتقي من جديد.
______________
*روائي وقاص من فلسطين.