أفلام حرب أكتوبر .. ضحية “التعجل” وخطيئة “فرسان الرومانسية”


محمد فايز جاد


عندما أراد نجيب محفوظ أن يكتب عن الحقبة التي شهدت ثورة 1919، انتظر حتى الخمسينيات، رغم أنه من مواليد 1911، وكذلك خيري شلبي عندما أراد أن يكتب عن حقبة السبعينيات، انتظر حتى التسعينيات تقريبا، بل وأوائل الألفية الثالثة. 

كثيرون من الروائيين والمبدعين عموما يحذون حذو محفوظ وشلبي؛ متعللين بأن الكتابة عن حدث مهم، أو عن حقبة تاريخية ما يحتاج فترة طويلة من الوقت تكفي لنضج الفكرة ووضوح الرؤية واكتمالها؛ في حين يرون الكتابة عن حدث ما عقب حدوثه مباشرة، أو في السنوات القليلة التي تليه، لا تمنح المبدع فرصة لأن يقدم عملا يحوي من العمق ما يجعله مختلفا عن رؤية رجل الشارع، أو الصحفي الذي يكتب المقالات بالتزامن مع وقوع الحدث. 
يبدو أن هذه النقطة قد غابت عن إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، ومن ثم عن المخرجين والمنتجين، عندما قدموا أعمالا عن حرب أكتوبر، جاء بعضها بعد الحرب بعام، والبعض الآخر أنتج قبل أن تنقضي فترة السبعينيات .
الوسط الثقافي في مصر يضج بالشكوى من ضعف الإنتاج الأدبي المصري المتناول لحرب أكتوبر، بيد أن هذه الشكوى تتحول إلى صراخ إذا ما انتقل الحديث إلى الأفلام السينمائية. 
السينما المصرية لم تعرف سوى خمسة أفلام هي التي تناولت حرب أكتوبر، وقد جاءت ضعيفة من الناحية الفنية، لا يمكن أبدا أن تكون على مستوى حدث كحرب أكتوبر الذي يعد حدثا فارقا في تاريخ مصر والمنطقة، بل والعالم بأسره. 
واللافت للنظر في هذه الأفلام أن الفيلمين الأشهر “الرصاصة لا تزال في جيبي” و”العمر لحظة” مأخوذان من عملين روائيين الأول لإحسان عبد القدوس، والثاني ليوسف السباعي. 
بنظرة بسيطة للروائيين الاثنين، يمكن للقارئ أن يخرج بسمة مشتركة تجمع بينهما، وهي الرومانسية؛ فالكاتبان كانا ممثلي أدب الرومانسية في حقبة الستينيات وحتى الثمانينيات، حتى أن السباعي قد لقب بـ”فارس الرومانسية”. 
ويبدو أن هذه السمة قد انتقلت لفيلميهما فخرجا فيلمين رومانسيين، وإن كان “العمر لحظة” للسباعي قد تناول الحرب كحدث شبه رئيس، في حين جاءت الحرب في “الرصاصة لا تزال في جيبي” على هامش الأحداث. 
“الرصاصة لا تزال في جيبي”، سيناريو وحوار رأفت الميهي ورمسيس نجيب وإخراج حسام الدين مصطفى وبطولة محمود ياسين ونجوى إبراهيم ويوسف شعبان وحسين فهمي، من الصعب تصنيفه كأحد أفلام الحروب؛ إذ إنه يدور حول فكرة رومانسية بطلها محمود ياسين، وتتعرض نجوى إبراهيم للاغتصاب على يد أحد أبناء قريته ما يدفعه للرغبة في الانتقام. ثم تأتي الحرب كحدث مكمل للأحداث، لا كحدث رئيس، حيث ينضم البطل لصفوف القوات المسلحة المحاربة على الجبهة. 
أما في العمر لحظة، سيناريو وجيه نجيب وحوار عطية محمد وبطولة ماجدة وأحمد مظهر وناهد شريف، فربما يبدو الأمر مختلفا بعض الشيء، فالبطلة ماجدة زوجة صحفية متزوجة من صحفي من الذين أصابتهم خيبة الأمل والانهزامية إثر هزيمة 1967، تسافر إلى الجبهة، ولابد أيضا أن تقع علاقة حب.
الفيلمان حملا نظرة رومانسية همشت من دور الحرب وجعلت من الصعب أن يوصفا بأفلام حربية. 
وفي العام نفسه، 1974، بل وفي الشهر نفسه، عرض فيلم “الوفاء العظيم” قصة فيصل ندا، وإخراج حلمي رفلة، وبطولة محمود ياسين ونجلاء فتحي وكمال الشناوي. 
الفيلم أيضا، رغم أن “أفيشه” يحمل صورة لحرب أكتوبر، فإنه استخدم الحرب كحدث غاية في الهامشية احتاجه الكاتب لتطوير الأحداث، حتى أن مشاهد الحرب فيه جاءت في غاية الضعف والسطحية. 
“بدور” إخراج نادر جلال، وبطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين أيضا، استخدم الحرب بطريقة مفتعلة مقحمة للتفريق بين صابر عامل المجاري وبدور النشالة التي أنقذها من الضياع، ثم أحبها بعد ذلك. 
ومرة أخرى يعود يوسف السباعي برومانسيته في 1977 في “حتى آخر العمر” إخراج أشرف فهمي وبطولة محمود عبد العزيز ونجوى إبراهيم، ليقدم قصة طيار أصيب بالشلل جراء الحرب، لتتحول حياته إلى حالة من الشك، والخوف من أن تتركه زوجته، أو تخونه. 
الفيلم ينافس “بدور” في مدى تهميشه للحرب؛ حيث لا يرى في الحرب سوى حادثة يتعرض لها البطل، قد تغني عنها أية حادثة أخرى كأن تصدمه سيارة مثلا. 
ومن عجب أن الأفلام كلها تقريبا تتفق في جعل الحرب نهاية، بل ونهاية سعيدة لشقاق مجتمعي أو لحالة حب مهددة، وهو ما يتفق مع الوصف السياسي لها باعتبارها ذروة “ثورة التصحيح” التي أطلقها الرئيس السادات .
ومع هذه الرومانسية الفجة تتفق الأفلام في إهمالها الجانبين اللذين يمكن أن يحملهما الفيلم الحربي. فقد يركز الفيلم الحربي على المعركة فقط مظهرا التكتيكات ووسائل القتال والاستراتيجيات المستخدمة، في حين قد يستخدم الفيلم الحرب كإطار لعرض رؤية فلسفية أو جوانب نفسية للمشاركين في الحرب أو الواقفين على هامشها، في حين يبلغ القمة الفيلم الذي يستطيع أن يمزج بين العاملين. 
لكن الأفلام الخمسة جميعها أهملت كلا الجانبين؛ فقدمت قصصا بسيطة للغاية، مغرقة في الرومانسية لا تبرز أي جانب إنساني أو فلسفي لشخصياتها، وفي الوقت نفسه أهملت الجانب العسكري؛ فخرجت المشاهد القتالية أقرب ما تكون للسذاجة، تفتقر لأي شكل من الجودة التقنية على مستوى التصوير أو الصوت أو الخدع السينمائية. 
كذلك جاء اختزال الحرب ليوم السادس من أكتوبر مثيرا للعجب، لدرجة أن الأجيال التي تربت على هذه الأفلام ظلت مقتنعة لفترة طويلة، وربما حتى الآن، أن الحرب تقتصر على الطلعة والضربة الجوية، والعبور بالزوارق، والقتال على الضفة الأخرى للجبهة. 
هذا الأمر يدفعنا للمقارنة بين أفلامنا وبين الأفلام الأوروبية والأمريكية عن الحروب؛ حيث يبنى فيلم كامل على حادثة صغيرة للغاية في الحرب، أو على موقعة هامشية، وربما على شخص واحد قد لا يلتفت له أحد، كما في فيلم “العدو على الأبواب” إخراج جون جاك أنو وبطولة جود لو وإد هاريس ورايتشل ويسز، الذي يقوم على مطاردة بين قناص ألماني وقناص روسي في الحرب العالمية الأولى. الفيلم رغم بساطة قصته يتضمن كما ضخما من الملامح النفسية والرؤى الفلسفية التي تصورها شخصية القناص الروسي فاسيلي فايتزيف. 
ثمة أسباب عديدة عرقلت إنتاج أفلام سينمائية بعد هذه الفترة عن حرب أكتوبر، منها معاهدة السلام التي قلبت الطاولة على الرئيس السادات، وأثارت الشكوك حول النصر نفسه، لكن رغم ذلك ما زال هناك تساؤل حول هذا الإهدار لحدث يمكن أن تقوم عليه عشرات بل مئات الأفلام، بخاصة ونحن نرى الدول تتسابق لإنتاج أفلام عن الحروب التي خاضتها كنوع من الترويج السياسي والعسكري والتاريخي. 
——-
بوابة الأهرام

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *