حفيظة قاره بيبان
( ثقافات )
قصة قصيرة
أيمكن أن تنتهي
هكذا قصتي معك؟
أن يختفي الصوت الزلال والكلمات المضيئة والعرض المدهش
الذي كنا نعد معا لسماء الوطن؟
يا صوتك الدافئ
العميق يتحول على الركح شلالا هادرا، يعلو صداه، واثقا إلى الآفاق البعيدة، مضيئا
كل اختلاجات الروح! بينما الجسد يتحول لسان نار، يعلو في السماء حينا، وحينا يتلوى
برشاقة مدهشة، راكضا، ككرة من لهب، في كل الاتجاهات!
* * * * *
مازال ملمس يدك
الناعم في يدي، وأنت تودعينني منذ أيام. شددت على اليد البضة الصغيرة في قبضتي. يد
امرأة لا تتركها الطفولة، رغم كل إرهاقات الأحلام الأوسع من السماء. ارتفع وجهك
الصبوح إلي، ومزيج من أشواق غامضة ومخاوف غير مألوفة عاد يرتع في عينيك، بعد أن شفتك
منها ساعتان من التمرين على الركح.
هب السؤال، رغما
عنك، يوقظه خوفك وحزنك على حال البلاد :
–
أيمكن أن يطلبوا منا تغيير العنوان؟!..
ارتفعت يدي إليك، تربت على كتفك، تهدئ مخاوفك.
–
…أو إلغاء العرض!!…
أضفت بنبرة ساخرة. حدقت في عينيك الكحيلتين المتعلقتين
بي، ويداي تمسكان بقوة كتفيك.
قلت مؤكدا :
– لن يقدر أحد
على منعنا من عرض ينير هذا الليل! إنهم
جبناء! يهددون مختبئين في الجحور! يقيمون محاكم الجهل والتفتيش على ما في السرائر
سارقين دور الإله!.
افتر ثغرك عن ابتسامة خاطفة وعاد الإصرار يتألق في عينيك
العسليتين.
وجدتني، قبل أن
أودعك، لأول وآخر مرة، أنحني لك، أحتويك بعطف، مشجعا، بين ذراعي. يستسلم لي المجهول والتعب في
عينيك. ينحني وجهي على خصلات شعرك الناعم الطليق، أقبل رأسك المسكون بثوراته على
الظلمات العائدة، محرمة الفن الراكض في دمك، باعثا في الروح والجسد الحياة. “أليس
الله بأكبر الفنانين؟!” قلت لي ذات يوم.
تحت أقدامنا
الواثقة، انتشى الركح.
نشر نشوته تضيء المسرح الذي انعكست أنواره في عينيك قبل
أن تسرعي بأشواقك نحو الغياب، في انتظار رفع الستار عن أول عرض لنا، بعد أيام فقط.
في المرآة
العريضة المقابلة، في قاعة الملابس، وأنت تأخذين معطفك الواقي، وحقيبتك الصغيرة المثقلة
بشتى الأشياء، لا يغيب عنها كتاب ودفتر، وجدتني، قبالة الضوء، أتابعك بقلق، وأنت
تبتعدين إلى ظلال السلم النازل إلى الطريق، بينما ظلت أمامي قامة الممثل العالية
وشعره الأسود المسترسل الذي جللته خصلة شابت قبل الأوان، ترتمي على جبين هامت تحته
النظرات.
بين ملابس
التمثيل، شاهدت آلة القيتار، على مقعد في الزاوية. تقدمت خطاي وارتفعت يدي تضرب
بقوة وغضب على الأوتار، تستعيد لحظة عاصفة من المسرحية، ارتفعت فيها أصواتنا، مع
الأنغام، داعية المدينة الغارقة في الظلمات إلى النهوض، بعد أن تسلل إليها سراق
المصابيح.
لم يكتمل
العام، منذ التقينا لأول مرة، تحت أنوار الفضاء الثّقافي بالمنزه التاسع.
أقبلت، بعد هاتف يطلب موعدا، بوجهك الطفولي المدهش
الصفاء، وهدوئك الظاهري. عيناك اللوزيتان الواسعتان كانتا تشعان ببريق أخاذ، وأنت
تجلسين أمامي، تمدحين ما شاهدت لي من مسرحيات، صحبة شقيقتك التوأم المولعة بالمسرح
مثلك.
قبل أن يأتيك
النادل بقهوتك، رفعت محفظتك الكبيرة السوداء على المنضدة، قائلة :
–
مسرحية جديدة كتبتها بعد الثورة.
وأردفت مؤكدة، في شبه رجاء :
–
لا أحد غيرك يمكن أن يمثل دور بطل هذه المسرحية!
وأنارت ابتسامة
خاطفة وجهك الصبوح الذي تورد.
–
قد أكون كتبته خصيصا لك!
وسحبت يداك الأنيقتان الملف الأحمر الكبير، المزدحم بأوراقه.
خطف نظري العنوان المكتوب بالأسود الغليظ. حدقت فيك
مندهشا.
أخذت أقرأ العنوان بصوت تمثيلي مسموع.
أضفت، وارتباك
خفي في نبرة صوتك العميق :
– أتمنى – إن
أعجبك النص – أن…أشاركك التمثيل.
وارتفعت سريعا،
بتلقائية، يدك الناعمة البيضاء. وكطفل خجول، أخذت تقضمين طرف خنصرك، وانتظار حارق
يتوقد في عينيك!
–
لكنك شاعرة!…هل مثلت من قبل؟
سألت مستغربا، بعد أن وضع النادل أمامك قهوتك.
–
أعشق التمثيل والغناء، تماما كما أعشق الشعر. شاركت سابقا في المسرح
المدرسي.
ورفعت فنجانك، وأخذت تترشفين قهوتك، بينما كنت أقرأ
عناوين الفصول.
يومها، ما كنت
أدري أني أمام عاشقة بحق، تتقن العشق والكتابة، إلا بعد أن فتحت أوراقك، ذات مساء،
وقرأت نصك، بل التهمته، أنا مدمن قراءة أعظم النصوص….لم أتركه إلا والفجر طالع.
حالما نهضت في الصباح، رفعت هاتفي أدعوك.
* * * * *
وأنت تواجهينني
على الركح، بعد أول التمارين، سألتني بتلقائية محببة ونبرة مفعمة بنشوة الانتصار
وأنا أصفق لك :
–
والآن، هل صدقت أنه يمكن أن أكون شاعرة ومسرحية معا؟
تقدمت منك، منتصرا بك، مهنئا. شددت على يديك الصغيرتين
بقوة :
–
لم أكن أتصور أنك، ستملئين الركح بكل هذا العنفوان!
* * * * *
كل ذاك
العنفوان! أين هو الآن، يشعل أضواء القاعة المطفأة؟…يبدد هذه الوحشة الغامرة
التي تقودني إليك، لألقاك، لا على خشبة المسرح، بل في قاعة الشرفة العالية بالمسرح
البلدي، مع المحبين القادمين، وعشاق الفن، والصحفيين.
تركت لهم
المدخل الرسمي الواسع، ومضيت بمفردي، وقد اخترت طريقي إليك كما اعتدنا، نترك شارع
الحبيب بورقيبة ونلتف على البناء إلى الطريق المحاذي للمسرح. ندخل من الباب
الجانبي الصغير. نصعد طائرين على السلم، يسبقني صدى كلماتك وزلال ضحكتك، لنبدأ
تمارين مسرحية كتبت بكل جنون شاعرة وعنفوان امرأة تتصدى لكل الظلمات العائدة.
وحيدا، أصل
الطابق الأول. يلقيني السلم الجانبي إلى المسرح. أجدني أمشي على خشبة الركح الخالي
في القاعة المطفأة الأنوار إلا من ضوء كئيب خافت بالكاد يسمح بالمرور.
تنظر إليّ
المقاعد المغلفة بالمخمل الأحمر سائلة. تحدق بي ظلمة الشرفات الخالية.
يسألني خشب الركح عنك.
تمضي خطواتي
الوئيدة، تطرق الخشب العتيق، وحيدة، في اتجاه السلالم إلى القاعة العالية المطلة
على شارع الحبيب بورقيبة، الشارع الذي سمع صوتك الصارخ لآخر مرة، قريبا من تمثال
ابن خلدون الرافع كتابه في صمت حزين.
هل سبقتني إلى
هناك؟…
إلى قاعة الشرفة، فوق صالة العرض، لنطل منها بآمالنا
العريضة بعد الثورة، على الشارع الفسيح المتحرك في كل الاتجاهات؟ … الآن، وقد حوّل
القدر – رغما عنا – وجهة اللقاء؟!
أخيرا، تتوقف
خطواتي أمام باب القاعة المسدلة ستائرها الحمراء على جانبي الشرفة، وقد احتشدت
بالحضور.
ها أنت!
تقابلينني، بكل ذاك الشوق والأحلام الشاسعة في عينيك الكحيلتين الأخاذتين، سامقة،
مضيئة في الصورة الكبيرة المرفوعة على الجدار.
أتقدم…تحاذيني
اللافتة العملاقة للمسرحية مواجهة الشرفة، ووجهانا تحت العنوان، يتألقان بالتحدي
في العيون الكبيرة.
كان صوتك يرتعد
بانفعاله، وأنت تعلمينني في الهاتف :
–
لقد مزقوا اللافتات!…تصوّر!…في كل الشوارع.
–
سنعلق أخرى!
قلت لك، محتدا بالغضب والإصرار.
لم ينته اليوم، حتى عادت اللافتات، عالية، تزين جدران
المدينة.
* * * * *
ها أنا أسير، بين
الكراسي العامرة بالحاضرين، مثقلا بخسارتي، يتابعني صدى صوتك الزلال
“لا تحوّل جموحي إلى العاصفة
إليك
ولقاء المستحيل
إلى كابوس أبدي
يسكن خلايا دمي”
نشرت يوما على جدارك، قارئة نبوءة القادم.
* * * * *
…أتقدم بين
الكراسي، من لقائنا المستحيل.
أشاهد كرسيي الشاغر، بين الجالسين على المنصة.
بخطى ثقيلة، أدنو منه…أدنو منك، يا من اخترتني بطلا
لنص ذابح أهديتني!
كنت ترفعين
يديك إلى السماء، داعية ربك ليحمي هذا الوطن الذي تحولت سماؤه إلى رايات
سود…”كان الإله ينزل من عليائه، يربت عليّ يمنحني رحمته وجماله ومحبته،
فأحب الله أكثر، وأطيل بين يديه السجود…أين هو ذاك الإله الحبيب؟!”([1])
قلت وصوتك يرتفع بحسرته وحزنه، في أحد الفصول.
آخذ مكاني،
وأفتح نصك بين يدي، في ملفه، كما قدمته لي يداك أول لقاء.
يدوس الوجع أكثر صدري…ها أنت! أمامي، خلفي، حواليّ،
بكل البهاء والعنفوان والتحدي، برأسك المرفوع، وعينيك اللوزيتين الواسعتين، يعمق
نظرتهما الكحل الأصيل، تطلان من عل على القاعة المكتظة بالحضور، على الشرفة
المفتوحة على شارع الثورة، الذي تلقاك، لآخر مرة، وأنت عائدة إلى بيتك بالمدينة
العتيقة، ماضية صوب تمثال ابن خلدون، بفرحك الطفولي بالعرض القريب.
* * * * *
يومها كانت السماء
غائمة والرذاذ يهمي وأنت تسرعين الخطى.
بغتة، هز الشارع صوت رجالي حاد يعلو بلعنة حاقدة، ثقب
أذنيك، تماما خلفك…
التفت فزعة، وإذا صيحة تكبير فاجعة تسقط عليك، وأشواك
لحية كثة سوداء…وسكين حادة ترتفع بارقة، تهوي بطعنة سكين قاتلة على العنق
المرمري، تخنق صرخة العصفور المرفرف الساقط في دمه.
جرى الشارع
إليك. التفوا حولك. ركضوا بك إلى المستشفى. ولكن بعد الأوان.
وهناك، مكان السقوط، ظل الدم القاني على الأرض يرسم
دهشتك، بينما كان الكتاب في يديّ ابن خلدون القريب، يبكي، مع السماء الماطرة.
انتبهت إلى
رئيس جلسة الشهادات ينادي باسمي. أسرعت أواري عبرة خسارتي، أرفع رأسي عن ملفك.
وقتها، شاهدتك،
في الصف الأول تجلسين، مكان شقيقتك التوأم التي لمحتها عند الدخول، يجلل بياضها
سواد ثوب الحداد. …العينان تستقران في عيني، ترشحان بحزن شاسع ندي.
تعلقت عيناي
بك…بالوجه الطفولي الحزين المقابل.
خلف المصدح، ارتفع صوتي عاليا، راشحا بالشجن والغضب،
ضاغطا على كل حرف :
–
قبل البدء، أعدكم!
على هذا المسرح، وفي كل البلاد، سنقدم قريبا عرضنا : “سرقوا إلهي!”.
[1] . رواية دروب الفرار.
* أديبة من تونس