*هيثم حسين
يوثّق الروائيّ الإيرانيّ فريدون صاحبجام (1933 – 2008) في روايته “المرجومة”، الصادرة عن دار “مسكلياني”، في تونس (2015)، ترجمة وليد سليمان، مشاهد من التدمير الممنهج الذي دأبت عليه سلطة نظام الملالي في إيران عقب ما سمّته “الثورة الإسلاميّة”، والتي أنهت حكم الشاه.
صاحبجام كان محكوما عليه بالإعدام سنة 1979 جرّاء دأبه على انتقاد الخميني وانقلابه منذ البداية وما نتج عن ذلك من ممارسات خاطئة، كالفساد المنظّم الذي حرصت السلطة الانقلابيّة على نشره بين الناس، وتشريع قوانين تبيح الانتقام وتبثّ الأحقاد والضغائن، وتهدم بنيان المجتمع، وذلك كلّه تحت شعار تطبيق الشريعة وتعاليمها، والادّعاء بالالتزام بمبادئ الدين.
تسلّل صاحبجام إلى بلده سنة 1987، وتقصّى تفاصيل روايته عن حكاية رجم تعرّضت لها امرأة بريئة؛ ثريّا مانوتشهري، وقعت ضحيّة افتراء زوجها وعدد من المتواطئين معه على تدنيس شرفها، وتلويث سمعتها، والقضاء عليها. في الرواية يصوّر المؤلف كيف أنّ الأكاذيب تتحكّم بمصير كثير من الناس، وترسم لهم مسارات حياتهم، وقد تقودهم نحو الهاوية.
قلب الموازين
يرصد صاحبجام التغييرات التي فرضتها السلطة الجديدة على المجتمع الإيرانيّ، بحيث قلبت موازين الانتماء والقيم، إذ دفعت الناس إلى مزيد من الاستعداء والتناحر، ويتقصّى كذلك أثر شخصيّات انتقلت من قاع المجتمع إلى التحكّم بزمام الأمور فيه، ومفارقات من تفشّي الأوبئة النفسية والانتقامات والأحقاد الشخصيّة في ما بينهم، وتسليط تلك الفئة المرتزقة على الآخرين المختلفين.
غربان علي؛ زوج ثريّا، انتقل من حال الفقر واللصوصية إلى حال الانتقام من الجميع، وذلك عقب التغيير الذي حصل، بحيث تمّت الاستعانة بالمجرمين وأصحاب السوابق لينهضوا بمهام قذرة لصالح الخميني ونظامه، وإسباغ الشرعيّة على ممارساتهم الإجراميّة، بحيث تظهر أنّها خدمة للثورة ونضال من أجل إعلاء كلمتها، حسب ما كانوا يزعمون.
الآخر هو الشيخ حسن الذي لاذ بالقرية بعد اقترافه عددا من الجرائم، وكان مشهورا بسوء سلوكه، يصبح أحد وجوه القرية، يتحكم بكلّ خيوط القرار، وهو الذي كان قاتلا ولصّا، أصبح مكلفا بأمور الناس، وكان يستمدّ سلطته من نفاقه وأكاذيبه وتحايله، إذ يتّخذ الدين ستارا لتمرير مآربه الخاصّة، وتحقيق أهدافه الخبيثة المتمثّلة في السيطرة على القرية وأهلها، وابتزازهم، وسرقة أموالهم، تحت مزاعم شتّى.
الشيخ حسن رمز للسلطة التي تتاجر بالشعارات، وتتّخذ من الدين قناعا لتمرير غاياتها بتجيير البلد وأهله خدمة لمصالحها، وتعقد التحالفات لإدامة سيطرتها، ولو كان ذلك على حساب إفقار الناس، وتجهيلهم، وضمان ما يكفل استمرار جهلهم.
هناك العمدة المتحالف مع الشيخ الفاسد والزوج المفسد المدبّر للمكيدة، وهو صورة من صور القوّة الرعناء التي يتحكّم بها صاحب السلطة الفعليّة المجسّدة بالعمامة الدينيّة، والتي تكون رداء للنفاق والابتزاز والاستغلال، وتكون عبارة عن تقاطع المصالح بين كبار اللصوص على مستوى القرية، والذين يكونون نموذجا مصغّرا للصوص الكبار على مستوى البلد برمّته.
بالنسبة إلى الشخصيات النسائية، هناك زهرة، وهي امرأة قويّة جسور، تمتلك سلطة معنوية على القرية، لكنّ التغييرات الجديدة التي أحدثها الانقلاب أربكتها، وحجّمت من دورها وتأثيرها، ولا سيّما بعد وصول الشيح حسن إلى القرية، وإفساده لعقول رجالها، بتحريضهم على نسائهم، وإلهائهم عن واجباتهم، وإقناعهم أنّ السلطة المطلقة بأيديهم، وأنّها من الحقوق التي يكفلها الشرع والدين لهم، وأنّ السلطة الجديدة تمنحهم إمكانية المشاركة في مؤسساتها وخدمتها.
تغييب العقل
يتمّ الحكم بالرجم على ثريّا التي تقع في براثن مجموعة من المجرمين الذين منحتهم حكومة الملالي السلطة للتنكيل بالناس باسم الدين. فزوجها غربان يسعى إلى التخلّص منها كي يتحرّر من العبء الذي تلقيه على كاهله، والشيخ حسن الذي حاول التحرّش بها ورفضته وصدّته، شعر بالإهانة وقرّر الانتقام منها، واتّفق مع زوجها على تدبير مكيدة تودي بحياتها.
يجزم أنّ غياب العقل يؤدّي إلى تغييب الرحمة، بحيث يجد الناس أنفسهم مستمتعين بلعب الدور المرسوم لهم، ويتمادون في تخمينهم أنهم أبطال الحكاية، في حين أنّهم أدوات في لعبة كبرى، تقودهم إلى جنون مضاعف، بحيث تظل عجلة الانتقام دائرة تضخّم حجم الأحقاد.
يصوّر الكاتب الهياج الذي عمّ بين أهل القرية، وهم يصرخون طلبا للثأر من المرأة التي زعموا أنّها لطّخت شرفهم، وجلبت العار للقرية وأهلها، وتعدّت الدين، وتجاوزت حدود الله والإمام. كما يصوّر الحماسة الجنونيّة التي دبّت بينهم، وهم يتجهّزون لرجمها، ويسخر من الاستعدادات التي كانت تتمّ، تلك التي تمثّل الالتزام بالتعليمات التي ينصّ عليها الدين في مثل تلك الحالة.
يلفت الروائي إلى الأحكام التي كانت تنطلق من رغبة انتقامية لا غير، وكيف كان يتمّ إعدام الناس من دون أيّ استيثاق، وفي حالة المرجومة ثريّا، فإنها دفعت ضريبة نقائها وطيبتها والتزامها بأخلاقها وحمايتها شرفها من تلويث اللصوص، وكانت بتحدّيها تجسّد قوّة الحقّ أمام سطوة الباطل، وهدر الحقوق في بحر العداء المستحكم والاستعداء المعمّم بعد التغيير الذي اجتاح البلاد وقلب موازين الحكم فيها.
ويصف مشهد اقتياد الضحيّة إلى الحفرة والطريقة المأسوية التي تم بها تنفيذ حكم الرجم، وكيف أنّها كانت ترتدي ثوبا أبيض يرمز إلى نقائها وبراءتها، ثم كيف تم تلطيخ ذاك الثوب الأبيض بدمائها النازفة، وبأحقاد متراكمة تعبّر عن النوايا السيّئة التي بدأ تعميمها بين الناس، بحيث يكون من شأنها تأبيد حكم الملالي من خلال منح الرجال سلطات فحولية يشعرون معها بقوّتهم.
يدلي صاحبجام، التي ترجمت إلى أكثر من 34 لغة، وحوّلت إلى فيلم سينمائيّ بعنوان “رجم ثريا”، بإدانته المعلنة لنظام النفاق والمتاجرة بالدين والشعارات في إيران. ويرسم صورة الرجل الذليل الذي ليس له من الرجولة أي نصيب، ذاك الذي يتحالف مع المجرمين لتنفيذ جريمتهم، والإيقاع بالمرأة التي ساعدته واهتمّت به.
يبرز الروائي حالة الضحايا حين يظنون أنهم باتوا يمتلكون سلطة ما بأيديهم، وكيف أنهم يستشرسون في الانتقام من بعضهم بعضا، وإفراغ حقدهم المتعاظم على من يعتبرونه مصدر الشرور والآثام بالنسبة إليهم، وكأنهم يحاولون التخفف مما يسكنهم من جور وتسليطه على الآخر، ويتلذذون ما ينتابهم بعد ذلك من شعور سخيف بالرضا عن إنجازهم في تحطيم من اعتبروه عدوّا، وهو في الحقيقة لم يكن إلّا ضحيّة مثلهم.
_______
* المصدر: العرب