*عزالدين بوركة
يأخذنا الروائي المغربي عبدالواحد كفيح داخل روايته “روائح مقاهي المكسيك”، إلى تلك العوالم المتشظية، عوالم سفلى، تمتزج فيها اللذة بالجرح والألم، فتختلط بالمعاناة، عوالم “مليئة ومرقعة بالكثير من الهزائم والخيبات”، كما تتداخل في الرواية مستويات سردية متعددة، مما يجعل القارئ يلج ويعرّج على رواية داخل الرواية.
الرواية الأساسية داخل هذا العمل تتمحور حول شقاء الإنسان داخل المجتمع، في خلفية اجتماعية ونفسية شديدة الارتباط بظروف مجتمع مغربي خارج من ربقة الاستعمار، حيث التمزق النفسي والاجتماعي يمثل بؤرة لأحداثها، هو تمزق على المستوى الأسري أو نواة المجتمع، وتمزق على المستوى السياسي. كأننا أمام تجسيد سردي لتلك الرؤية النيتشوية للعالم، إذ يقول “يجب أن نقرّ بأن كل من يولد يجب أن يكون على استعداد لأن يهلك بالمعاناة”.
“روائح مقاهي المكسيك” تتناول حياة الإنسان المغربي/ الجندي المغربي/ المقاوم المغربي/ في حقبة الاستعمار كيف أنه لأجل تحرير وطنه عليه أن يحارب على جبهات غريبة وبعيدة عنه. أن يحارب شعوبا يجمعه وإياها نفس المصير المشترك، ألا وهو التحرر والانعتاق من الاستعمار. إنها مفارقة عجيبة إذ “لكي تحصل على استقلالك عليك أن تحارب في أدغال بعيدة جدا شعبا يأمل هو أيضا في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار”.
يجعل السارد من حياة الطفل بوقال (الكهل في آخر الرواية) أحداثا تشكل العمود الفقري للرواية والخيط الجامع تتعالق حوله أحداث صغرى تجعل من المشاهد تتوالى في لقطات اختار لها الكاتب أشكالا مختلفة، تارة مفاجئة وأخرى متوقعة في بناء معماري يتعرّف الراوي ويدرك فيه سر لعبته السردية.
ونقتبس هنا قول عبدالملك مرتاض، حيث يذيب كفيح النص السردي في الناص؛ فإذا القارئ ينسى المؤلف، الذي يستحيل إلى مجرد واحد من الشخصيات التي لا تعرف من تفاصيل السرد المستقبلية وأسرارها إلا بمقدار ما تعرف الشخصيات الأخرى. هذا ما يصطلح عليه تودوروف بـ”الرؤية المتصاحبة” أي أنّ الأنا الساردة تصير شخصية تمتزج والشريط السردي.
ولكون الرواية جعلت من أحداثها قادرة على التّماس مع ما هو واقعي ويومي وجد فيها القارئ نفسه وحياته، مما يطبع على الرواية طابعها الجمالي، إذ تأتي متقاطعة مع رؤية فيلسوف اللذة، رولان بارت، القائل بأن “نص اللذة: (هو) ذلك الذي يرضي، يفعم، يغبط، ذلك الذي يأتي من صلب الثقافة، ولا يقطع صلته بها. هذا النص مرتبط بممارسة مريحة للقراءة”.
تنطلق الرواية من اقتناء الراوي العالم رواية من باحة محطة القطار صباحا ويجعلها أنيس وحدته إلى أن يصل إلى مكان عمله. الرواية تحت عنوان “أنا والشيبة العاصية/ أو لمَ لمْ تنتظريني يا أمي؟” يغرق في أحداثها حتى النخاع، وبين الفينة والأخرى وفي محطات عديدة يرفع رأسه ويغلق دفة روايته، لينقل لنا ويروي ما تراه عيناه من مشاهد وما يحسه ويشمه من روائح ويسمعه من أصوات ويراه من خلال النافذة من مناظر أسوة بأحداث الرواية التي تعبق مقاهيها بالروائح والأحداث والأبطال، إلخ. إلى أن يصل القطار إلى المحطة النهائية وتنتهي لعبة السرد والحكي التي تمارس طيلة مسافة السكة، مما يجعل من الأزمنة الحكائية في الرواية تتداخل في ما بينها وتتداخل الأحداث دون المساس بالشكل المعماري والبنية السردية، ما يجعلنا نشبّه الرواية بلعبة الدمى الروسية، إذ تحوي كل دمية على دمية بداخلها في تسلسل متعدد.
هذا ويأتي زمن الحاضر في السرد داخل الرواية، كعملية قطع واستدراك، إذ عبره ينقلنا الراوي إلى البعد الذي انطلقت منه الرواية (ركوب السارد العالم القطار)، ليصف لنا عبره حركات وأوصاف الركاب على متن القطار، من فينة إلى أخرى.
أما زمن الماضي داخل الرواية فيرتبط أساسا بالرواية الداخلية (الرئيسية)، إذ يحضر الزمن لتذكر الأحداث التي عاشها البطل بوقال. وأما التذكر هنا فله علاقة وطيدة بذلك الذي نجده عند الفيلسوف غاستون باشلار، “فهو أكثر من مجرد إدراك للشيء، أي أنه أكثر من مجرد استحضار لصورة الشيء؛ وإنما هو حضور الشيء نفسه”.
تمتح أحداث رواية “روائح مقاهي المكسيك” للروائي عبدالواحد كفيح من الذاكرة التي تعتبر موضوعا مركزيا إضافة إلى صراع البطل العنيف والقاسي علاوة على تناول موضوع التشتت الأسري وتجارب حياتية تتسم بالتفصيل في الكثير من بؤر الصراع فيها كما تتداخل الحكايات وتتوالى في خيط ناظم يتحكم الراوي في خيوطه كتقني ببرج المراقبة.
_____
_____
*العرب