*يوسف ضمرة
كتبت الناقدة، خالدة سعيد، في مقدمتها لترجمة قصص إدغار ألان بو تقول: لم يتحدث أي إنسان بسحر أروع من سحر حديثه عن الاستثناءات والمفارقات في الحياة الإنسانية وفي الطبيعة؛ نهايات الفصول المثقلة بالبهاء المسكر، الساعات الدافئة، الرطبة الضبابية حيث الريح الجنوبية ترخي الأعصاب كالحبال، وحيث تمتلئ العيون بدمع لا يأتي من القلب؛ التهاويل التي تفتح الطريق أولاً للشك، ثم لا تلبث أن تصير مقنعة، مليئة بالبراهين كالكتاب؛ العبث الذي يسكن في البصيرة ويحكمها وفق منطق رهيب؛ التهيج العصبي الذي يغتصب الإرادة ويذللها. التناقض القائم بين الأعصاب والفكر؛ الإنسان المتصدع إلى درجة التعبير عن الألم بالضحك. إنه يحلل أكثر الأشياء هروباً وتفلتاً من التحليل؛ إنه يزن ما لا يوزن. إنه يصف بطريقة محكمة وعلمية مخيفة، هذا العالم الخيالي الذي يتموج حول الإنسان العصبي ويتحكم به ويقوده.
في هذه الفقرة، ثمة الكثير من الكلمات اللافتة؛ الاستثناءات والمفارقات. التهاويل التي تفتح الطريق أولاً للشك. العبث. التناقض القائم بين الأعصاب والفكر. الإنسان المتصدع إلى درجة التعبير عن الألم بالضحك. إنه يزن ما لا يوزن.. إلخ.
عن من يكتب إدغار ألان بو؟ إنه لا يكتب عن العادي والسائد والمألوف، إنه يكتب ما لا يخطر في بال المرء، ويمنح الأشياء التي تبدو عابرة في حياتنا، قيمة كبيرة «إنه يوزن ما لا يوزن»!
عندما نفهم الكتابة على هذا النحو، فإننا لن نتمسك بما نظنه منطق الحياة وطبيعيتها. لن نتمسك بالتسلسل الزمني وبالتتابع الرياضي لمكونات الحياة. فكل ما يبدو متوقعاً قد لا يكون كذلك. وكل ما قد نظنه نظاماً قد يتبين أنه غير ذلك.
تصلح هذه المقدمة للكتابة بشكل عام، وإن كتبتها الناقدة كمقدمة لقصص إدغار ألان بو. صحيح أن إدغار ألان بو يجسد هذا كله، لكن كتّاباً آخرين فعلوا ذلك، ويفعلونه كل يوم.
يشكل الغموض البشري؛ غموض النفس أمام صاحبها، أولى مشكلات الحياة. يطمح الكاتب إلى فك شيفرة هذا الغموض. لا يعرف إدغار ألان بو لماذا كان عليه أن يقتل رجلاً بسبب زرقة عينه! كان الرجل طيباً وبسيطاً، لكن زرقة عينه التي تبدو ضبابية، هي التي رسّخت الرغبة عند الراوي بضرورة قتله. لا ليس مهماً إن قبض رجال البوليس عليه أو انهار أمامهم. ربما أراد أن يقول إنه لم يحتمل الإثم فكشف عن جريمته. لكن الأهم هو السؤال الأول: ماذا فعلت عين زرقاء برجل جعلته قاتلاً؟ كيف؟ ولماذا؟ هذا هو ما ينتقل من الشك إلى اليقين. هكذا تصبح جريمة قتل الرجل ذي العين الزرقاء أمراً حقيقياً، يتطلب اعتراف المجرم بها والكشف عنها.
على الكاتب أن يتبع حدسه لا تفكيره النمطي السائد. قد يقوده الحدس إلى مناطق موغلة في الغموض والشك والريبة، لكنه قطعاً سيفتح الباب بين الشك واليقين. سيجعلنا نرى الحياة بطريقة جديدة، مغايرة للطريقة التي اعتدناها منذ تربيتنا في المنازل والمدارس. فالأرض كروية، وهذا صحيح علمياً، لكن هذه الحقيقة العلمية لا تقدم ولا تؤخر في مفردات الحياة اليومية للإنسان.
علينا ككتاب أن نولي اهتمامنا لكل ما حولنا. أن نزن ما لا يوزن. أن نفكر في الأشياء التي تبدو صغيرة بلا قيمة، لأنها قد تكون ذات وزن أكبر في مصير الإنسان.
_______
*المصدر: الإمارات اليوم.