صورة جانبيّة لنمر



*أمجد ناصر


بعيداً عن العالم العربي، حيث صار الدمُ أكثرَ من الماء وأرخص، أفكِّر بوليم بليك.. بالأحرى، بنمره الشهير الذي يسبرُ المدى المُرتجف بعينيه التليسكوبيتين. بسبب طفلٍ يقف وراء نافذة زجاجية في مدينةٍ تزرع أشجاراً من الكونكريت، ويسمي نمراً مرسوماً على الجدار المقابل “تايغر”. عادت إليّ قصيدة بليك التي أرفقها بصورة جانبية لنمرٍ، لكي يتفادى رؤيته وجهاً لوجه. فكيف يمكن التحديق في عينين تشعلان غابة الليل بلهبهما؟ كتب بليك عن غير كائنٍ في الطبيعة. لكن، ظلت قصيدة النمر نسيجاً متفرّداً. ولعلّها تكون أشهر قصائده، وأكثرها استظهاراً، إلى اليوم.

 لم أكن أهتم كثيراً بعالم الحيوان من قبلُ، فلدينا ما يكفي من كوارث عالم حيوان آخر، لكي أنشغل به. فكرنا العربي وأدبنا، يفكِّران، إلى حد بعيد، في الإنسان وموقعه في الطبيعة/ العالم (في صراعه من أجل البقاء)، فإن ورد الحيوان والنبات، فذلك لأنه من الديكورات الطبيعية المرافقة، وليس مقصوداً لذاته، إلا لماماً. هناك آداب في العالم شفوية ومكتوبة، تفكِّر في الإنسان كما تفكِّر في الحيوان. 
نلحظ هذا في الثقافات الأفريقية والأميركية الأصلية وبعض الآسيوية، حتى إن شعوب أميركا الأصلية ترصد لكل إنسان حيواناً وتسمّيه باسمه. الحيوان في ثقافات الشعوب الأميركية الأصلية مقدس مثل الإنسان. له روح مثل الإنسان. يحتاجونه، طبعاً، للأكل والغذاء، لكن هذا لا يقلّل منزلته عندهم، فهو جارهم. من هذه الزاوية “الروحية”، كتب وليم بليك عن النمر، وغيره من كائنات الطبيعة. فهو أقرب إلى صوفي الطبيعة منه إلى شيء آخر. كأنه ليس ابن الثقافة “البيضاء” التي دمّرت الطبيعة بنباتها وحيوانها. من فكرة إلى أخرى، رحت أقفز مع النمر سبعة أمتار، أو أكثر، في القفزة الواحدة. في الأول، فكَّرت في هيئته الرهيبة، المهيبة، تكوينه التام، ثم فكّرت أنه أصبح على وشك الانقراض، فمن يرغب في مشاهدته اليوم، في ديكور يشبه موطنه، عليه الذهاب إلى المحميات الطبيعية، أو حدائق الحيوان. ثم بين هذه القفزة وتلك، عرفت أن هناك قبائل عبدته، بل لا تزال. مثل قبيلة نانغا التي تعتبر الإنسان والنمر ابنيْ أمٍّ واحدة. والنانغا التي تقطن بين الهند والصين، وألحقها الانكليز عنوة بالهند، تحت التاج البريطاني، هي اتحاد قبائل، أكثر من أن تكون قبيلة واحدة. يدلُّ على ذلك تعدَّد لغاتهم التي تبلغ نحو 36 لغة.

يتمدّد وجود النانغا، ذات الملامح والأزياء والعادات الخاصة، إلى بورما وآسام، ولديهم “دولة” تدعى “نانغا لاند”. وهؤلاء قوم محاربون، كانوا يقطعون رؤوس أعدائهم إلى وقت قريب (1967)، ويحتفظون بها كما لو كانت كؤوساً تذكارية. الفكرة من وراء ذلك ليست زهواً بقوتهم، بل لاعتقادهم بأنَّ قوة أعدائهم تنتقل إليهم. يمثّل النمر عند مَن يعبده، أو يحترمه، الإرادة والقوة والشجاعة والمكر أيضاً، بل قد يمثل الجانب الخفيّ من قلب الإنسان الذي تتساكن فيه نوازع عديدة، بعضها خيِّر وبعضها شرير. هل لدينا في الثقافة العربية شيء من هذا بصدد الحيوان؟ بلى. لكن، ليس إلى الحد الذي تتحوّل فيه معتقداً، وإن كان بعض الدراسات يقول بقدسية الثور وحُمُرِ الوحش في التراث العربي الجاهلي. غير أننا لا نجد كثيراً من هذا في الشعر الجاهلي الذي يفترض أنه ينطوي على بعض قيم عصره ومفاهيمه ومعجمه النباتي والحيواني. أكثر الحيوانات وروداً في شعرنا القديم هي الإبل، تليها الخيل (وهذه للترحّل والإغارة)، ثم ما يُصطاد ليؤكل، مثل الظباء والوعول. لكن، ليس النمر. لا شيء يُذكَر، حسب علمي، عن النمر حتى من باب الاستعارة. ألم تكن هناك نمور عربية. كانت ثم انقرضت. لها وجود الآن في المحميات الخليجية، باعتبارها بيئتها الأولى. مع ذلك، فإن اسم نمر ومعانيه شائعة جداً عندنا.. وها هي العربية تصف، منذ القدم، مَن يصعد إلى الأعلى بأنه “نَمَر”، وهذا ما يفعله النمر، بالضبط، عندما يصطاد، إذ يحمل فريسته إلى أعلى الشجرة، ويأكلها وحده. 
_______
*المصدر: العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *