هل كانت القرون الوسطى مظلمة حقا



*حسونة المصباحي



العصور المظلمة هو مصطلح يستخدم للدلالة على العصور الوسطى في أوروبا وهي الفترة ما بين الأعوام 400 – 1400 تقريبا، حيث لم يبق من معارف الإغريق والرومان التي ازدهرت في أوروبا سوى القليل محصورا بين الكنائس والأديرة والبلاطات، وتميزت العصور المظلمة بتفشي الجهل والتشدد الديني وتعاظم دور الكنيسة في مختلف مجالات الحياة وأيضا بانتشار الحروب الطاحنة بين الشعوب الأوروبية والجرمانية.
تقوم العديد من المجلات الأدبية في فرنسا راهنا بنشر ملفات مهمة عن القرون الوسطى، محاولة أن تجيب من خلالها على السّؤال التّالي: هـل كانت القـرون الوسطى مظلمة حقّا؟
وقد أشار الناقد الفرنسي هوبرت أرتوس إلى أن القرون الوسطى لم تعد تفتن فقط مؤرّخين مرموقين من أمثال جاك لوغوف، وجورج دبي، وإنّما الروائيّون أيضا. ولعلّ ذلك يعود إلى عوالمها العجائبية، وإلى غرابة الحياة فيها، وإلى طقوسها الغامضة، والسحرية.
دائرة الهمسات
جذبت رواية كارولين مارتينيز التي حملت عنوان “دائرة الهمسات” إعجاب الأجيال الجديدة لسعة الخيال فيها، ولكشفها عوالم غرائبيّة في حياة من يماثلونهم في العمر خلال القرون الوسطى.
وتروي الرواية قصّة فتاة تدعى إسكلارموند، من القرن الثاني عشر، تختار العيش في الدّير، رافضة التزوج من رجل لا تحبّه. وقد كتبت كارولين مارتيز روايتها بلغة بسيطة، وشاعرية.
نظام مغلق وشامل
في روايته التي حملت عنوان “امرأة أمام المرآة”، يعود إيريك- إمانويل شميت هو أيضا إلى القرون الوسطى ليروي قصّة نساء ثلاث يعشن في حقب تاريخيّة مختلفة: القرون الوسطى، عصر النّهضة، وبداية القرن العشرين. والتي تعيش في القرون الوسطى تدعى أنّا. ومثل بطلة رواية كارولين مارتينيز، هي ترفض الزّواج من رجل ترغب عائلتها في فرضه عليها، فتفرّ من البيت العائلي.
ويقول كاتب هذه الرواية “أنا أعرف جيّدا تاريخ القرون الوسطى. فقد درست الفلسفة، وتعمّقت في التعرّف على مختلف الجوانب التي تتّصل بفلسفة القرون الوسطى. لذلك يمكنني القول إنّني ملمّ بالعالم الثقافي الذي كانت تتميّز به هذه الحقبة التّاريخيّة حيث ظهر فلاسفة كبار في أوروبا، وفي العالم العربي وقد تخصّصوا في إحياء الفلسفة الإغريقيّة متمثّلة بالخصوص في أرسطو، وأفلاطون، وقد قرأت آثار توماس الإكويني، وابن رشد. كما قرأت للشّعراء المسيحيين الذين اشتهروا بميلهم إلى الزّهد”.
ومتحدّثا عن القرون الوسطى، يقول شميت “اعتمادا على النّظرة الأولى، تبدو هذه الحقبة كما لو أنها نظام مغلق، وشامل، بأحاديّة لا غير. والحال أنها كانت شديدة الثّراء.
فهي حقبة الرّوحانيات. فقد كان الدّين الوسيلة الوحيدة التي يلجأ إليها الرّجال كما النّساء لفهم أنفسهم . وهذا ما يتناقض مع الحقب التّاريخية الأخرى. وعندما أضع أحداث روايتي في نهاية القرون الوسطى، وفي بداية عصر النّهضة، فإني أكون قد اخترت الفترة التي لا يزال فيها العالم القديم صامدا أمام الجديد القادم”.
أعمال فلسفية وأدبية
في روايته “القلب الكبير”، يهتمّ الكاتب الفرنسي جين كريستوف روفين بالأماكن، وليس بالحقب التّاريخيّة مثل إيريك- إمانويل شميت. بطل روايته جاك كور، شخصيّة حقيقيّة. فقد كان مستشارا لدى الملك شارل السّابع. وهو الذي ساعده على إنهاء حرب المئة سنة. غير أن روفين سمح لنفسه كروائيّ بالتّلاعب بالحقائق التّاريخيّة ليجعل من جاك لوكور ابنا لتاجر فراء يسافر بين الشرق والغرب، فيزور دمشق وبيروت، ويعيش عن كثب وقائع الحروب الصّليبيّة.
وقد تميّزت القرون الوسطى بأعمال فلسفيّة وأدبية وشعريّة مهمة للغاية. ففي الفلسفة كان هناك توماس الإكويني، وابن رشد، والفارابي، وابن طفيل، وموسى بن ميمون، وابن ماجة.
وفي علم الاجتماع كان هناك ابن خلدون. وفي هذه الحقبة عرفت الحضارة العربيّة أقصى درجات مجدها قبل أن يحرق المغول بغداد ومكتباتها العظيمة.
ويقول المؤرّخ الفرنسي ميشال باستورو، إنّ القرون الوسطى دامت ألف سنة. وبالتّالي لا يمكن أن تهيمن عليها طوال هذه الفترة ثقافة واحدة، وحضارة واحدة. وبالنسبة إليه، هناك حقب ثلاث في القرون الوسطى: الحقبة الأولى تمتدّ من العصور القديمة المتأخّرة حتى قرابة العام الألف. ثم تأتي الحقبة المركزيّة التي تشمل القرن الحادي عشر، والقرن الثاني عشر، والثالث عشر. وفي النّهاية، هناك الحقبة التي تنتهي بين القرن الرابع عشر، والخامس عشر.
ويرى باستورو أن الذين ينعتون القرون الوسطى بـ“المظلمة” مخطئون في تقديراتهم لهذه الحقبة المهمّة في تاريخ العالم. ففي كل حقبة تحدث كوارث، وحروب، ومجاعات. ومنذ البداية وحتى هذه السّاعة لا تزال البشريّة تعاني من كل هذا. والقرن العشرون الذي بلغت فيه الحضارة الغربيّة أوجها شهد حربين عالميّتين لم تعش البشريّة مثلهما.
ويذهب باستورو إلى أن أفظع قرن بالنسبة إلى أوروبا هو القرن السّابع عشر الذي وصفه المؤرّخون الفرنسيّون خطأ بـ“القرن المجيد” أو بـ“القرن العظيم” حيث ظهرت فلسفة الأنوار التي مهّدت للثورة الفرنسية، ولثورات أخرى فكريّة واجتماعيّة، منهية هيمنة الكنيسة على الحياة السياسيّة والروحيّة. والحال أن القرن المذكور شهد كوارث طبيعيّة كان ضحاياها يعدّون بالآلاف. وكانت المجاعات تحصد الكثير من النـاس، والفواجع تتوالى الواحدة بعـد الأخرى فلا تبقي ولا تذر.
_______
*المصدر: العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *