هل الشعر يؤلم؟


ترجمة : رجاء الطالبي *

( ثقافات )


 


*ميشيل دوغي (Michel Deguy) : شاعر وفيلسوف ، يعرض في هذا المقال أفكاره حول موضوع ذلك الألم أو الأذى الذي يمكن أن يسببه الشعر باعتباره ” أكثر المشاغل براءة” حسب هلدرلين.




كان هذا القول المأثور (أصغي في هذا التصريح إلى أمنية أو شك ) عنوانَ وَمستهل المحادثة التي أجراها الكاتب باولو فابري في أمسية ببيت الكتاب، وأبحث هنا لتطويرها محاولا أيضا دراسة نقيضها، أو إيجاد نمذجة أخرى مماثلة.
كما أعرف أن هذا الافتراض يرن كتذكير لتقليدٍ. كان الشعر مؤذيا، يؤذي، ويعرف أن يؤذي، لكن هل يستطيع أن يستمر في ذلك؟ كان هنالك زمن لقصائد الهجاء والسخرية، زمن للعقوبات، كان أطول زمن ذاك الذي امتد من أرشيلوك إلى فولتير ومن شينيي إلى هوجو. كان الشعر هجائيا أو وطنيا، يقتل أو يحب الحرب، كان نشيدا للحرب وللنصر، ينادي للقتل للفتنة، نشيدا للحرب والنصر، لازمة حربية، أهجية… الشعر المسلح، المعتمر خوذة، بجزماته العروضية، ودرعه الأشيلي… أعرف جيدا لكنني سأبحث في اتجاهات أخرى؛ تلك التي تقول بأنه يؤلم وتلك التي ترى أنه لا يؤلم أو تلك التي ترى فيه “أكثر الانشغالات براءة” (بحسب ترجمة، هنا، لهلدرلين)، تلك التي ترى أنه يعبر عن الغضب والقسوة والحرمان والاعتزال..
غاضب، قاس، زهدي، معتزل،، في أي حالة تضع ” الذات الغنائية نفسها؟ لننصت ونرى.



عن الغضب



ليس السؤال في أن الشاعر الذي يمتلك نفسا هشة يغضب (وهذا يمكنه الوقوع)، لكن الغضب هو الذي يهز الشاعر، إنها الإلياذة التي تبدأ بالغضب. لنسم هذا الانفعال…
سأتناول الغضب بسبب هوميروس وهوراس، المشكلة ليست في أن نعرف من يبدأ، من الدجاجة الغاضبة أو البيضة المهتاجة، لكن المشكل هو في انتزاع الشعر من نفسية الشاعر، انتزاع ” الغنائية” من الطبائعية. الغضب “موضوعي” وهذا لا يعني أننا نتأرجح من الذات إلى الموضوع ولكننا نعمل على موضعة التفسير، إذن، ماذا يحدث؟
كل هذا يغضب (ني)، يغلي الكائن ويهتاج، أنا ألم مطلق !سنتكلم عن طريقة للوجود منفتحة على ما هو موجود، عن حالة أونطلوجية أو كاشفة. يصبح الكائن ما هو في ذاته، عن طريق ذاته من أجل ذاته. التفكير في الكائن، المكاشفة الذاتية، يحرك الغضب الفكر، الذي يبحث عن قول موقفه مما هو موجود في نبر غاضب. يتحدث الفلاسفة عن “وجود”. أنا غضب، هذا ما نقوله أو ربَّة الفن تغضب الشاعر- الحساس ليخرج عن أطواره ثم يأتي فقدان الثقة والأوهام من ربة الفن الإلهية إلى المجاز بأحرف كبيرة: يتجوهر الغضب في بديل لعبادة وثنية للبلاغة، وصف مؤثر معشوق بشكل مبهم، فضيلة غاضبة .



عن القسوة



يحلم الشاعر بوضعية حية للسان، متحركا منسابا في امتداد ومشكلا استمرارية مع جسده الشخصي. نتكلم استعاريا حسب الاستعمال المبتذل لهذه الكلمة عن جسد- لسان وهو ليس جسدا، يدرج النطق الواحد في الآخر الجسد واللسان. كيف “نلمس”، نحرك ، نتوصل؟ وعندما لا نحرك الأشياء، هناك، مباشرة باستعمال (سحري) للجمل، يتعلق الأمر بخلخلة النفوس. نتواصل، تقول لي؟ لا يعتمد هذا على الأخبار. لا، لكن يتعلق الأمر بالنار. أمتلك جيدا رأسا ووجنتين يشتعلان، لكن اللغة لا تشتعل، ونحن نتكلم عن النار، عن اللهيب، عن الحمى. كيف نمرر النار، كيف نشعل المكتبة؟ مسرح القسوة؟ قبل موته بقليل كان آرطو لا يزال يصطدم بلغز التواصل عندما كان يلاحظ بطلان الحركة في محاضرته الشهيرة سنة 1947.
يبقى اللغز دائما أن كلمة ألم لا تؤلم، فكلمة المعاناة لا تجعلنا نعاني، كما أن القسوة ليست قاسية. وعند اللزوم، لا يوجد هنالك فحش إلا عبر المخيلة والمرجع: “تحيلنا” المخيلة. لا يكون مدلول ما فاحشا من نفسه، يكفي أن نكتب “خاخا” كإله قرطاجني عند فلوبير لألا يكون برازيا. ما هي هذه: “السلطة المستقبلية التي يمكن للكلمات أن تحتفظ فيها بالأشياء”، لنتساءل مستعيرين كلمات ميرلو بونتي هذه الطريقة في التلقي التابعة للرقابة عموما؟
نخاطر بالإسراع في الشعور بالمتعة، باستدعاء هذه “الاستمرارية مع الخارج”، لأنها “أمنية”، “رغبة مجنونة” نهتم بها لأنها معرضة للفشل، هذا الخطاب المفلسِف الذي نعتمده يمكننا أن نتفاهم (نسبيا) “حول” آرطو، كما أطبائه. ليست لغة المعتوهين، مثلا، باللغة لأن لا أحد يتكلم بها، ولا يمكننا تكلمها، وبطريقة ما “نسمعها” لأنها محاطة بما ليس هي، منقولة من قريب إلى قريب عبر خطاب الآخرين، تلك الخطابية العامة التي تتردد داخلها .
لماذا يحظى رامبو بالاهتمام حتى عند شباب اليوم؟ هل انفعاله في الكلمات، يحركني يحفزني على التحرك ؟ هل الورع الذي يدعيه يستدعي الحيرة و”العلف الذي يرمي به إلى الهاوية النهمة”، اللعنة، اللوثة، الوداع. تؤثر فينا هذه اللغة الاستثنائية (” كيمياء الفعل؟”) .. ألا نقيس القوة بمدى تأثيرها؟
تقاس القوة بمدى المقاومة التي تواجهها، تقلصت المقاومة الاجتماعية كثيرا بالمقارنة مع المائة سنة الماضية. إن “قوة” اللغة الشعرية لدى آرطو ورامبو -لا ترتبط بذكر ألفاظ القوة- هي أقل هجومية. لنقل أنها تَعْبُر بشكل أفضل، لكن ليس بطريقة أحسن: بدون أن تواجه نفس المقاومة، بدون أن تختبر قوتها. تستنفذ الشعر في الفراغ، يتصارع مع الأشباح، أشباحه بالخصوص. ربما ينقصه البديل، إذن، الرديف للاعتقاد الذي هو نفسه خادع في إيهامه بسلطته الاستثنائية في اتصاله بالخارج؟



الحرمان يؤلم



عامة لا يتحقق هدف ما من قبل ذات إلا في مقابل بعض الحرمان، والحصر الذاتي. أن تحرم من أجل إمكانية عليا صعبة المنال، هل يمنح النموذج بـ”الإخصاء”؟ القديس بول وأوريجين والتروبادور… يحرم من المتعة والإنجاب، من أجل متع وإنجابات أُخر، أصبحت “استعارية”، حيث ينبغي أن تتناول هذه الأخيرة حرفيا، بجدية وواقعية، وعند استعمال الصورة (المشبه به) كأنما الكلمات يجب أن تعكس جدية الاستعارة وانقلابها إلى “روح”؟
لكن لدي ملاحظتان أو ثلاث مرتبطة بتجربة الشعر وحول أمثلة بعينها.
يتفرد ملارميه بقولة (وهي مجزوءة من خرافة في محكي أحداث: “النيلوفر الأبيض” تقول هذا: محروما من تجلّ يمكنه أن يكون “واقعيا” و”مشتهى”، تجلّ لامرأة على ضفاف النهر الخضراء، يعمل السارد على أن يجعلها لا تظهر أو تتناوب في الظهور والاختفاء، حيث يكون محظوظا إذ حول النثر المسرود إلى قصيدة نثرية، الإنصات المتجلي في حكمة إلى ما يمكن أن يقوم به الشعر. وصف مغامرة مزعجة وحركة مجدف تنكتب في قاعدة لعملية شعرية، ضمن فن شعري. إنها رسالة لأجل رسم صورة لوجود مجازي.
مثال ثان هو: الترجمة
في الترجمة تحرم القصيدة من:
أ‌) أصالتها، تأخذ القصيدة منبعها ومجراها في مكان آخر. تنحرف خاضعة. شغف و”وفاء” من أجل العودة إلى الذات، إلى إمكانها: تحاول جهدها، تستعير، تتطفل.
ب‌) كما تحرم القصيدة أيضا من لسانها، تحيى ” اختبارا للغريب” (عنوان لبرمان Berman ، وهو كما نعرف قولة لهلدرلين).


هكذا تحاول أن تبدع قصيدة بلسانه، تحاكي حتى حدود قواها القصوى، تغار، تحسد، تقلد الآخر، توحي بالحرمان من إمكاناتها لتكون بجمال الآخر.

سنوضح أن مثل هذه الاستعارة للأصل في ظل المنافسة والتظاهر هي ما يقنن علاقة الفنون “فيما بينها” كل واحد يستعير من الآخر. “ليست القصيدة وحدها من يفعل ذلك”.

عن الاعتزال



مرتفعة هي مصاريف صيانة “ذات غنائية”، مزاجية، تعبيرية متبجحة، وهمية…
ليست بعض النفقات غير قابلة للانضغاط فقط بل هي حيوية: صيانة المكتبة (أو صيانة التقاليد إذا شئتم) لتبقى قابلة للقراءة والاستعمال والنمو. صيانة اللسان (من كلمات القبيلة ) “لاستعمال جيد” (خاصة استعماله الشعري) مع مراقبة محترفات التجريب، إلخ… صيانة قابلية استقبال المستعملين وإبداعيتهم (عن طريق التعليم). وإذا عن كراهية للشعر ونقصد هنا كراهية اكتفاء الشعراء الذاتي، كراهيتهم للنماذج التي صارت أكاديمية، وحبهم للمخاطرة، للغلو والشطط (وهذا يضم أيضا احتفاء الترجمات بالغريب) الميل أيضا للمعاملات المحرمة والممنوعة مع ما يختلف عنه ولا يدخل في مجال اهتماماته، لكن هذا في صالحه حسب التعبير الشعبي.

إذا كان من أجل تدمير اللسان واستبدال وهم السلطات النوعية للنظم بهذا الزعيق المزاجي أو بنقيق الجناس فإننا لا نربح شيئا بهذا التغيير.

إن اختزال جلسة لـ” تجميع” الكلمات والأفكار لدى المحلل أو الطبيب النفسي لا تولد قصيدة.

ليس الهدف هو إيلام اللسان بهذه الطريقة من أجل راحة الذات المتلفظة. إن فن الشعر هو الفن الذي يمكن أن نقوم فيه بإخفاء الذات على مستوى التعبير – ذات يمكن أن تفهم بصيغتين: الأنا الموقٍّعة التي أنابت ساردا بالمناسبة (التي يحكيها الخيط السردي-الرابط)، وهذا الاختفاء سيكون لصالح الذات المفكرة في عمق “عينها النشيطة” ومن جهة أخرى يصبح ذاتا أيضا الشيء المعني ويسمى أحيانا موضوعا، متحولا لحكمة لرمز لكل العملية.

لماذا هذا الزهد، إن لم يكن من أجل حركة الاعتزال هذه التي أقرؤها (بين المعاصرين) عند آرطو عندما تملص من هويته ليحصل على هوية جديدة، حاذفا “من ذاته” كل “المحمولات” “المنتمية له”: فرنسي، مرسيلي، أوروبي، رجل معاصر، مسيحي، معمد، إلخ.

وندرج مثالا آخر: في نهاية الكتاب عندما يعترف سارتر أنه “إنسان كبقية الخلق”. ربما هكذا أفهمه – رجل يتوصل إلى هذا التشابه الذي يسميه بودلير في آخر قصيدته بـ”أخوي”؟ أليس هذا ما ندعوه هنا “المعنى الخالص لكلمات القبيلة”؟

الاعتقاد الوحيد الضمني- والذي سوف يبحث عن حيويته اللغوية الاستعارية قلب يأس كل مكاشفة أخرى – هو كالتالي: الاعتقاد في إمكانية تمر عبر اللسان المحلي الذي يجعل خطابه يقول أشياء هي حقائق عن نفسه.

البراءة



لكن أليس هو “أكثر الانشغالات براءة”، يقول هلدرلين عن الشعر؟ أليس الشعر بريئا؟ بدون شك هو بريء وليس مؤلما، كما يمكن للبريء “أن يؤلم”، على الأقل البراءة باعتبارها كذلك – انقسام الإرادة والجيد” من ناحية أخرى انقسام الخير والشر- لا تمُتُّ للشر مبدئيا. أبحث عن إدراك شيء محمول للشعر عبر قولة للشاعر الألماني:
العطاء كريم يقول التعبير
يصبح الكرم هو جوهر العطاء.

على ماذا ترتكز (كيف تتعلم أن تعطي)؟ بقطع العلاقة بين الشيء الممنوح والمانح، بالفصل والكرم القاطع يفصل، يفرق، العلاقة في النفَس الذي يرتمي، حيث يرمي بالكرم نحو الارتماء إلى العنق، بدون الارتماء مع،،، إنه الإمساك، حرمان المانح، بشكل يجعل الهبة تسقط من السماء (تعبير آخر) ليجهل وعيك ما يقوم به من خير (يختلف الأمر بالنسبة للشر). هبة جد شاسعة، بدون مصدر، عموما، منطلقة “من السماء”.

ما هو مهم؛ هو كيف نجعل الآخر يقبل بهبتنا.. يجب أن تكون هنالك مفاجأة لتقبل الهبة. للدخول إلى هذا السؤال سيكون منحدري “لاهوتيا” كيف ندنس “النعمة” لنستخلص لغة العطاء جماليا؟

النعمة تمنح من جديد. هو اللعب مع الطفل: “أعطني إياها” نقول عن اللعبة، أو عن الشيء الذي نمنحه إياه أعطيك إياه لتعيده إلي، لن يكون هنالك عطاء بدون إعادة هذا التبادل، حتى لا تصبح “هبة” الفلاسفة ضرورة؟ ! لكن كعطاء أو كهبة تعيد العطاء.

إن هذا التبادل هو الذي يخلق العطاء، ويعطي. سيكون هناك عطاء “مجاني” في عودة التبادل. العطاء يعيد العطاء نفسه ممنوحا بلطف الآن إنها صيغة بودلير مقتفيا آثار Constantin Guys في الشوارع حيث يقتفي ظهور العالم في الظاهرة.

أمنحك المطر، الشمس (القديس François d’Assis )، هبة الزهور.. تقول القصيدة. العطاء أو الهبة سيكون القصيدة: ” أهبك هذه الأبيات/…/ أوجهها إليك، لتمنحها لي ثانية، لتقولها”.

* شاعرة من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *