نجوى الزهار *
” الصرخة الأولى “
عندما غادرت رحم أمي ( غلافي الأول ) ، كان بانتظاري العديد من الأغلفة ، فانتقلت من دفء الى دفء ، تلونت ، تلونت بالوردي ألوان تلك الوجوه الفرحة المستبشرة ، تلونت بالأزرق ألوان ذاك البيت المتناظر ، همسات بيضاء ، لحاف أخضر ، الشمس هي التي تطالعنا من مختلف الزوايا .
لعلها هي التي كانت تدور حولنا، نحن جميعا في المركز ، من غاب ومن حضر .
الحديث ممتد متواصل من الأمس البعيد الى الغد المتجدد .
تقول جدتي من الصباح :
الدنيا هنا بأسرها لدى كل الناس ، أليست الدنيا ارضا وسماء ؟ .
لم لا يكون الاكتفاء ؟
ثم أصبحت أرى ما ليس عندي ، لأرى سجينة اسيرة داخل فكري . أدق وأمعن في الدق لكي تذوب معاني الشروق في مياهي الراكدة .
” أسقط غلافا “
أصبحت أشتهي ما عند غيري ، لأغدو سجينة اسيرة داخل بيتي .أغلق النوافذ ، أسدل الستائر فالضوء مرتد .
” أسقط غلافا “
ثم أصبحت أنتهك حياتي ، فغاب الايمان عن قلبي …
” سقطت كل أغلفتي “
فقدت عيوني المقدرة على التقاط بذور الشمس الأزلية ، فبات الشتاء باردا قاسيا ، الخريف متناثرا ضائعا . أما الربيع فلا يملك الا صفة الاستعجال .
جسدي غربال منهك لا يهتز الا لدفع متوال من البكاء .
” شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي ” . الشاعر المتنبي
بداخلي دوائر مائية تتسع وتتسع بلا بؤرة ، بلا مركز .ارادتي كبة من الصوف متشابكة الخيوط ، لا تعرف لها بداية ؟
حدود وحراس لكل جزء مني ، تناثرت بل بالأحرى تبعثرت بين السرير والسرير .
” حزني ثقيل فادح هذا المساء
كأنه عذاب مصفدين من السعير
حزني غريب الأبوين ” الشاعر صلاح عبد الصبور
هذا الذي عندي ، يدفشني ، يبددني فها أنا أنتقي آلام الشعراء ولا أقرأ الشعر .
وماذا بعد ؟ لم كل هذا ؟ لم الكتابة عن ذاك الذي حل بي ؟ .
لا أقول السبب وأكتفي بالمحصول …
أسمع التساؤل ، أشعر بالتململ ، بل من المؤكد القول ما جدوى ما كتبت ان لم نعرف السبب … ما قلت ان لم تشرحي أكثر ….
عند الكتابة يندفع كل ما بداخلنا الى الأعلى ، نصبح كأننا ثوب مقلوب يحتاج الى اعادة … للكلام رائحة ، طعم ، قوة اندفاع ، قوى استقبال . أما الحرف فيبدو في بعض الأحيان عاجزا عن استقبال تردد اليد التي تخط … فبعض الحروف تريد التحليق عاليا مثل طير يخط السماء ولا يترك أثرا . ثمة حروف يعوزها الاطمئنان في الأمكنة التي وضعت فيها مهما طال المقام ، ولكن سأحاول … سأكون ذاتا تراقب ذاتها الأحزان …
قليلا في الوقت …. فهذا التشويش يغمرني ….
ماذا قلت
أقول : ان النائم لا يعي نومه ، يعي فقط يقظته ، وأنا أيضا لم أع أنني كنت النهر الى أن تحولت الى بحيرة راكدة .
هل كان تحولي سريعا ؟
هل كان تحولي بطيئا ؟
أدري أنني ألقيت في مياه نهري الكثير . وأدري أيضا أنه ألقي رغما عني الكثير الكثير . ولكنه النهر المتدفق الجاري . لا تعوز الحكمة النهر ، فالتواصل والتآلف الدائم بين المنبع والمصب . يفيض النهر ويبعد بعيدا ولكنه يظل عاشقا لمجراه .
قالت لي :
خير وبركة . خير وبركة . ثم مأدبة للطعام في هذا الحي . أظن أنها مأدبة غذاء . فالطعام ما يزال يحافظ على شكله ومحتواه ، ثم عاودت الاستمرار في البحث والتنقيب في مكب النفايات ،لا تنقطع عن عملها الا لإرضاع طفلها ،تحمله قليلا ثم تعاود وضعه بالقرب من المكب.
كيف تحول مكب النفايات الى غايات مختلفة ؟ .
هل كان تحوله سريعا ؟
هل كان تحوله بطيئا ؟
مازالت بعض الضحكات تتجول في الأعماق . فلقد كان هذا المكب بيتا عائليا للقطط…. أحاديث تدور ، البعض يقف على أعلى مكان للمكب . البعض في الداخل يقفز عاليا اذا ما رمي عليه ما يفوق طاقة احتماله. يزداد العدد أو ينقص تبعا لمنطق الفصول .
مر زمن تزامنت فيه الأيدي ، كل الأيدي …. الى أن حسم موضوع الصراع هذا ، فتراجعتالقطط عن مكان لم يفقد فقط خصوصيته بل محتوياته ……. أيضا
حزن واحد يكفي …..جوع واحد يكفي
أصبح الكلام أسود ، أصبحت الرؤيا سوداء ، للانكسار شظايا ، هل كان أحد بمعزل عنها ؟ . حاولت الوصول الى المنبع ، ثم حاولت أن أنبش القاع ، ثم حاولت أن أستقر في المجرى ، ثم حاولت وحاولت الى أن أصبحت مثلما أصبحت ” نمور زكريا تامر في اليوم العاشر ” .
شيئا فشيئا تراخى كل ما بداخلي … الى أن فقدت النزعة الحيوية لمواصلة العيش .
الحرائق
” عندما تندلع الحرائق في الغابات ثمة نوع نادر من الأوركيدا ، تعاود الظهور مجددا ”
مجلة العربي الكويتية
ترك المطر المنازل ، منازل السحاب ، فاقتربت خطواته ، لتصافح وجه الصباح .
” أمــــــا أنـــــــــــــــــــــا ”
دق متواصل على نافذتي ، نداء سأحاول أن لا أسمعه ، ولكنه المطر ، المطر الذي تنبت به ومعه الأحاسيس . واقعة أنا لا محالة في بحيرة الذكريات . صوت المزاريب يصدح في أعماقي ، الضحكات تنمو في داخلي ، نحن الأطفال ، أطفال حارتنا ، كنا نتسابق في وضع رؤوسنا تحت المزاريب ، احساس بالرطوبة الايجابية نركض به الى الأحضان …
تنظر لي مليا جدتي ثم تبتسم ، هكذا فعل بك المطر يا صغيرتي ؟
كانت الأسئلة ليست بحاجة الى جواب ….
كأس مع جوز هند ، كستناء تشوى على مدفأة حطب ،أشربه على مهل، وخيالي يدور مع من بقي خارجا من الأطفال … للشتاء طقوسه ، طعمه ، أغوص أكثر وأكثر .
ثم تأتي رطوبة العفن لاسترجاعي على ما أنا عليه .
ولكن المطر يا اصدقائي … حسبت حساب كل شيء الا هذا، أسدلت الستائر …أغلقت النوافذ … النور محبوس مكبل … سأحاول مجددا الاحتماء بغطائي ، بفراشي ، فهو ملاذي واستجابتي لما أعاني ، وماذا بعد … لقد تبلل به داخلي …. داخلي به ظمأ، داخلي ذو قنوات مسدودة .
” ثمة محاولة ”
يتحرك الجسد مني باتجاه نافذتي ، يدي المتعبة تزيح الستائر ، بل تفتح النوافذ … يدي المرتجفة تمتد خارجا لملاقاته .
عندما يكون التلميذ جاهزا يحضر المعلم
ترتسم على يدي قطرات المطر , لكل منها محتوى , رغبة , البعض يتمدد , البعض يتلاشى … المزاريب غير المرئية … رحلة من السماء الى الاسطح , الى المزاريب , الى النهر , ثم العودة مجددا الى السحاب.
قناديل من ضوء بيتي , قناديل من الضوء تتدلى من فضاء لا حدود له .
هل خرجت أم أنني وجدت ذاتي خارجا؟
هل أنا التي رأيت ؟ أم أنني كنت المرئية… ؟
كؤوس من نور … استقرت على نبات أخضر صغير … متناه في الصغر …
نبات أخضر يشق المسافة الضيقة بين بلاط المدخل ليصافح وجه الحياة … عملية تفتح وازدهار , لم يدع ذاته تقف في طريقه.
يوم ميلاده ربما سيكون يوم مغادرته , فطريقه هو طريق أقدام مستعجلة لا تبالي أين تدوس , فهو القادر على المتعة , القادر على الالم.
حوار يطوف داخل فكري , مياه تطوف بأعماقي .
ثمة انبعاث يبدأ بطريقة خفيضة وقدسية , ثمة انبعاث لنغمة الاجداد , خلايا الدفء تتحرك في مياهي , لم أعد أسيرة البدن , فلأصرخ صرختي الثانية , لأصرخ فوق كل ما مضى , فها أنا أعاود الظهور مجددا نبتة خضراء متوحدة مع ضفاف نهر متجدد .
ماذا قالت جدتي :
– الدنيا بأسرها لدينا , الدنيا هنا سماء وأرض.
ماذا تقولون ؟
-لنحتفل بالحياة … فقط … لكونها الحياة .
* كاتبة من الأردن