*غيث خوري
أحدثت الثورة المعلوماتية وعصر تكنولوجيا المعلومات مجموعة من التغيرات عبر وسائطها المختلفة وما قدمته من تسهيلات أسهمت في تطور العلوم وانتشارها وانخفاض معدلات الأمية، وإتاحة المعلومات للجميع، وإفساح المجال للتعبير الحر من دون قيود مباشرة، وقد تعرضت القراءة كغيرها من الأنشطة في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال إلى العديد من التغيرات في ممارسات القراءة من جهة وتغير هوية القارئ ومتطلباته من جهة أخرى.
للوقوف على أثر هذه الثورة المعلوماتية على القراءة استطلعت «الخليج» آراء بعض النقاد والكتاب، الذين رأوا أن القراءة الكلاسيكية أو الورقية مازالت تحتفظ بحضور قوي وأفضلية نسبية لدى الناس، رغم سيطرة الوسائط الحديثة على المشهد العام.
قال الناقد د. صالح هويدي إنه لتبيان هذا الموضوع لابد من تقديم مهاد نظري شامل أولاً، فمما لاشك فيه أن وراء هذا التطور التقني الكبير الذي بدأ بثورة المعلومات والثورة الرقمية وتدشين دخول عصر العولمة، يمثل ثورة أتت بعهد جديد لم يسبق للإنسان أن دخله من قبل، إذ أتاحت هذه الثورة للإنسان عامة والمثقف والكاتب خاصة فرصاً واسعة، حين جعلت العالم ومصادره المعلوماتية بين يديه يستطيع الوصول إليها متى شاء، إضافة إلى فتحها أبواباً إلى تقنيات جديدة وعوالم إبداعية، كما في الرواية الرقمية أو التفاعلية والقصيدة التفاعلية وربما المسرحية التفاعلية، كل هذا إضافة إلى تقريبها بين الإنسان والآخر أينما كان أو بعد هذا الآخر عنه، إذ يستطيعان الحوار والكتابة والكلام وإرسال الصور لبعضهما في كل لحظة، لكن ذلك لا يمنع من القول إن في هذه التقنيات الحداثية وجهاً آخر ينبغي ألّا يغيب عن ذهن الكاتب أو المثقف، وأقصد به الوجه غير الإيجابي الذي يمكن أن يتأتى من خلال المبالغة والإفراط في الاعتماد على الأتمتة والتكنولوجيا السهلة، ولاسيما في مجال الإبداع، إذ إنني أرى أن الإبداع أبعد ما يكون عن التقنيات الإلكترونية، لأنها وإن فتحت له جوانب تقنية، فإنها ستؤدي في المقابل إلى شحوب الإبداع وإفراغه من حرارته، ولاشك في أن هذه العوالم تتضمن جانباً إيجابياً كبيراً ومهما، لا يسعني إلّا أن أقف إلى جانبه وأقدره، لكنني من جانب آخر لم أجد في هذه الأنواع الأدبية الجديدة التفاعلية ما يضيف شيئاً مهماً أو جديداً ينافس الإبداع السابق عليه، فلايزال الإبداع الأول هو الذي حرضني ويكشف لي عن مديات تخيلية ونسق يعتمد عل منطق واحد، في حين يتكسر هذا النسق ويتشظى إلى عدد من الأنساق التي تستدعي من القارئ أو المتلقي متابعتها واللهاث وراءها عبر أكثر من زاوية، خروجاً ودخولًا، قد تستدعي منا انتظاراً طويلاً وراء شاشات الحاسوب الآلي، أما على مستوى أثر هذه التحولات التقنية على القراءة لدى الإنسان، ولاسيما الشباب وصغار السن منهم، فليس جديداً أن أقول إن هناك دراسات كثيرة حذرت من مخاطر الاعتماد على هذه التقنيات والأجهزة المحمولة لما تخلفه من مظاهر سيكولوجية وأخرى تتمثل في آثار سلبية في ذاكرة الأطفال والناشئة، من جراء اعتمادهم على هذه التقنيات، ومما لاشك فيه أن حاجتنا إلى الصور والمعلومة العلمية أو المعرفية أو الأدبية شيء مهم لابد أن نحمد معه هذه التقنيات في توفيرها لنا، لكن على أولياء الأمور والمثقفين خاصة، أن يدركوا أن هذه التقنيات يمكن أن تكون مفيدة في بحث الإنسان عما يريده منها، و ليس على مستوى القراءة المطولة، كأن نقرأ دراسة طويلة أو رواية من الروايات، لأن ذلك يصبح ذا مردود سلبي على حواس الإنسان جميعها، ويمكننا تفادي ذلك بتحويلها إلى مطبوع ورقي ولاسيما في الأعمال الإبداعية التي تتطلب تأملاً وتذوقاً وقدراً من الراحة، إن عصرنا الذي أصبح يسمى بعصر الصورة والميديا هو عصر ينطوي على مخاطر كثيرة، لأن اختصار العالم بالصورة هو اختزال له في أفق واحد يمكن أن ندعوه «بهوس الصورة»، وكل مبالغة أو إفراط في الجري وراء الصورة سيكون على حساب الكلمة والقراءة، وبخاصة أن هيمنة الصورة قد جاءت في الأساس كنتاج ثقافة رأسمالية واستهلاكية فيها من الضرر بقدر ما فيها من الفائدة.
ورأت الكاتبة صالحة غابش أن وسائل التكنولوجيا سهلت وصول الكتاب للقارئ وأصبح بإمكانه تحميل الكتب التي يبحث عنها ويود قراءتها بضغطة زر، لكن إلى جانب ذلك لها مخاطرها من خلال تأثيرها على النظر والتركيز والذاكرة، وهذا ما يدفع الكثيرين من محبي القراءة إلى التوجه نحو الكتاب الورقي.
ويبقى الشباب واليافعون هم الفئة الأكثر إقبالاً على القراءة من خلال هذه الوسائل الإلكترونية، ومن المهم أن نلاحظ طبيعة هذه القراءة، والتي أخذت بالتحول نحو قراءة سريعة لمقتطفات أو نصوص صغيرة، ما يجعلها عرضية وسريعة النسيان بالنسبة للقارئ ولا تشكل منصة ثابتة يمكن الرجوع إليها بسبب التراكم الكبير وكم التحديثات والمعلومات الهائلة التي تنشر يومياً.
والقراءة تبقى هي نفسها سواء كانت إلكترونية أم ورقية، ولكن المهم أن يختار الإنسان ماذا يقرأ وكيف يقرأ ومتى يقرأ، وألّا يهمل هذا الجانب في حياته، فالقراءة هي مدخل لعالم أوسع وأرحب ومفتاح لعلاقات إنسانية أقوى وأعمق، وتبقى مسألة تقييم الطريقة الأجدى للقراءة ثانوية أمام التشجيع على فعل القراءة بالوسيلة التي تناسب كل شخص، وتلائم متطلباته واحتياجاته.
وقالت الكاتبة شيماء المرزوقي: من البديهي أن يكون للتكنولوجيا أثر واضح وكبير على مفاصل حياتنا كافة، وخاصة في مجال المعرفة والقراءة تحديداً، وهذا الأثر ليس بالضرورة سلبياً في مجمله، وإنما يحمل في طياته أموراً إيجابية كإتاحة المعرفة للجميع وجعلها في متناول اليد، فاليوم نشاهد آلافاً من الكتب التي يتم تداولها إلكترونياً عبر الإيميلات، وبات بإمكان عشاق القراءة والمعرفة القراءة بواسطة هواتفهم الذكية.
لكن المعضلة في هذا السياق أنه في مقابل هذا الوهج المعرفي، الكثير من المغريات التي تجذب القراء وتبعدهم عن رحاب الكتاب.
فالتكنولوجيا مسؤولة أيضاً عن ملايين الألعاب الإلكترونية، ونشر الأفلام والموسيقى، وهي وسائل ترفيهية لا تغني عن الكتاب لكنها تزاحمه، ولو أمعنا النظر في مثل هذا الجانب فإننا سنجد على امتداد التاريخ الحديث للإنسان، كانت دوماً هناك وسائل حديثة تزيح الكتاب أو تحاول التغلب عليه، ففي السابق كان اختراع التلفاز يشكل تهديداً قوياً، لكن قابله تطور في فنون الطباعة والتغليف، اليوم يقابل الثورة التكنولوجية، زخم في نشر الكتاب بوسائل حديثة أيضاً، فنشاهد طرقاً عديدة لإيصال الكتاب وبأرخص الأثمان، إلى جانب انتشار المكتبات الإلكترونية سواء التي تقدم الكتب المجانية أو التي تباع.
ويبقى التحدي على الإنسان نفسه، وإذا ما كانت لديه رغبة حقيقية بالتسلح بالعلوم والمعرفة، والتوجه نحو الكتاب، أم هو قرر الركون إلى وسائل أخرى.
وفي هذا السياق، يجب على دور النشر والهيئات المسؤولة عن الكتاب، بدعمه ومحاولة ابتكار وسائل جديدة لنشره ونشر المعارف على مختلف مستوياتها.
وأكدت الكاتبة عائشة عبدالله أن متعة الكتابة والقراءة لا يمكن تعويضها عن طريق التكنولوجيا الحديثة، حيث إن القراءة من الكتاب الورقي تعطي الشخص متعة التخيل ومعايشة الأحداث، على عكس القراءة الرقمية، وعلى الرغم مما توفره الشبكة العنكبوتية والكتاب الإلكتروني من قدرات ومزايا عظيمة في مجال تداول المعلومات، إلّا أنهما ليسا الوسيلة ذات الأفضلية لدى القراء، وهو ما يؤكده استمرارية الكتاب في أداء رسالته التثقيفية والتعليمية وفي الحفاظ على نشر الفكر والثقافة والأدب لعقود كثيرة سابقة، وربما مقبلة.
ومن الأفضل أن يدمج الإنسان بين القراءة الإلكترونية والحديثة محاولاً استغلال كل القدرات والعوالم والمساحات والفوائد التي يتيحها كل نوع.
_____
*المصدر: الخليج الثقافي