*زاهي وهبي
عرفت السلطنة العثمانية حقبات مختلفة صعوداً وهبوطاً، مثلما عرفت أنماطاً من الثقافات وأساليب العيش نظراً الى تعدد الشعوب والأعراق التي عاشت في كنفها فتمازجت وتداخلت وانصهرت، من دون اغفال ما تعرضت له أعراقٌ ومذاهب من قمع وقهر واضطهاد وصل حد المذابح كما حال الأرمن والآشوريين والكلدان والأكراد. وعرف العثمانيون مراحل تَقدُّم وازدهار بحيث كانت الآستانة (إسطنبول) في زمن أوجها عاصمة «العولمة» آنذاك، كلما شاع فيها أمر صار موضة زمانه.
لئن كان التاريخ العثماني مريراً على الشعوب التي حكمتها السلطنة بالنار والحديد والجيوش الانكشارية، فإنه لا ينفي ما حققته من إنجازات وما استحدثته من جديد في الحكم والعسكر والثقافة والاجتماع، ولعل كثيرين لا يعرفون أن أول مقهى انطلق من إسطنبول في العام ١٥٥٤م على أيدي تاجرين سوريين هما حكم الحلبي وشمس الدمشقي ومنها الى عواصم الدنيا ومدنها (ظهر أول مقهى في البندقية العام ١٦٤٥م). اذا كانت الخلافة العثمانية التي امتدت قروناً قد تركت بصمتها واضحة أنّى حلّت، تارة بالعمران والقلاع والجسور، وطوراً بالاضطهاد والظلم والجور حيث لا تزال جداتنا يروين عن «سفربرلك» أو عن جمال باشا السفّاح، فإن أبرز ما ورثه العرب على ما يبدو من تلك السلطنة المترامية هو النارجيلة (!). نعم، النارجيلة، لِمَ الاستغراب؟ تلك الآفة التي جاءت من الهند وكانت بدايةً عبارة عن جوزة هند فارغة تستخدم لتعاطي الحشيش ثم تطورت حتى استقرت على هيئتها الراهنة، والى اليوم ما زال هناك من يربط بينها وبين تنابلة (السلطان) عبد الحميد.
إذا كانت كلمة تنابلة تطلق على الكسالى المتبطلين بحسب القاموس، فإنها على ما يبدو آخذة بالتوسع لتضم تحت جناحها شرائح متزايدة نتيجة طبيعية لعصر الانحطاط الذي تمر به الأمة ومن علاماته كثرة الفتن والشقاق والتشظيات المجتمعية والحروب التي تعصف بالبلاد والعباد، ومن تمظهرات حال الانحطاط التي نمر بها شيوع النارجيلة الى درجة لم يعد المقهى أو المطعم الذي يمتنع عن تقديمها لزبائنه قادراً على الصمود. طبعاً، ليست النارجيلة طارئة أو جديدة على مجالسنا لكنها على مدى سنين طويلة كانت وقفاً على كبار السن وكانت جزءاً من طقس أكثر منها ظاهرة عامة، اذ كان بعض الوجهاء يقدمونها لضيوفهم على سبيل التفكهة أو الكرم، وأحياناً كانت تُعقد حولها مجالس شعر وأدب. لكنها مُذ خرجت من المجلس المنزلي الى الحيّز العام خرجت عن غايتها وبات من المألوف مشاهدة شباب اناثاً وذكوراً دون العشرين من العمر ينفثون دخان نراجيلهم في مختلف الأنحاء.
لا تنحصر مضار النارجيلة أو الشيشة بالآثار الصحية الخطرة المميتة حيث كل «نَفَس» يعادل على الأقل علبة سجائر كاملة، بل تتعداها لتمثل علامة على التبطل والخواء اللذين تعيشهما شرائح واسعة من مجتمعاتنا تحت شعار التسلية وتزجية الوقت وملء الفراغ بقرقرة المياه الملوثة ودخان التبغ والتنباك، فيما هي في الواقع دليل خواء كامل وكسل جماعي لا نظير له، وكأن تزجية الوقت لا تصح بقراءة كتاب أو بلعبة شطرنج أو مشاهدة عرض مسرحيٍّ جيد أو فيلم سينمائي يحرضنا قليلاً على التفكير، والمفارقة مثلاً أن ابنة السادسة عشرة التي لا تجرؤ على تدخين سيجارة في حضور والدها قادرة على تدخين النارجيلة برفقته وكأنها المنّ والسلوى.
لا نبالغ اذ نَصِفُ راهننا بـ «زمن النارجيلة» بكل ما تحمله التسمية من دلالات لا تحيلنا سوى على الخواء والعجز والكسل، ولعل الذي قال يوماً «نَفّخْ عليها تنجلي» يندم ندماً شديداً لو شاهد «الدخان» الذي يُطبِق على صدورنا، وطبعاً ليس السبب النارجيلة وحدها.
______
*الحياة