“قاف القضبان” والنص الكريستالي المحتفي بثيمة الحرية



*أحمد الشيخاوي


خاص ( ثقافات )
هي جملة مواصفات تصنّف في أيقونة المنجز ما بعد الحداثي ، تتّسم بها شعرية الحروفي المتألق أديب كمال الدين.ففضلا عن الوضوح والشفافية والتجرّد من لبوس الغموض و التعقيد اللغوي،ثمة الرؤية الموغلة في الهمّ والحساسية الإنسانية ،وزخم الرؤى المغلّفة بكريستالية صناعة الدهشة وتخطّي حدودها الإرباكية إلى تأجيج عواطف وأفكار المتلقي على حد سواء.
من قبيل الاشتغال بشكل حرفي على الجملة الفعلية كلازمة،مع تغييرات طفيفة تطرأ على صفة الفاعل بغية إثراء الموضوع وتنويع مشاهده الحكائية وتكثيف صبغته السينمائية ضمن مقاربة فانتازية تطال كل المكونات تقريبا،مركّزة على الحالة الإنسانية وما ينجم عنها من تفاعلات مقيدة بطقوس زمكانية معينة وأشد التصاقا بكائنات وأشياء أخرى. 
وتكمن نكهة التوظيف الذكي لهذه اللازمة ذات البعد الكريستالي في غناها وتغنّيها بالدلالات المتصلة ضمنيا بالعنونة ، واستثمارها كمستهل للمقاطع العضوية برمّتها، كاحتفاء بقيمة أخلاقية وإنسانية بمستوى الحرية وإن في رداء النسبية ،على غرار الحاصل هنا في كواليس هذا النص المفتوح الباذخ.
علما أنها عملية تحدث وتتولّد دون ترسيخ انطباعات تفيد النمطية والتكرار كمثلب منفّر يخدش أو يشوّش على الذائقة السليمة.
جلّ شخوص هذه السردية البليغة والجانحة عبر وسائط شعورية أو لا شعورية، إلى اقتناص ميكانيزمات خلق الدهشة وفق إملاءات يقتضيها خطاب الدعابة و إقحام الطرائف و تفجيرها في مفاصل جوهرية من جسد النص بين الفينة والأخرى،ما يضفي على الجو العام حبكة وتماسكا وتسلسلا منطقيا عبرة دورة كاملة من وإلى الفكرة الأم.
ويكون من غرائبية المشهد ألا ينحسر تقمص الدور ويقبع حكرا على الإنسان بحد ذاته ، كضرب من الترجمة والنقل الصريح لما يتلاطم في ماهية الذات الشاعرة من رسائل يانعة قابلة للتمرير.
حتى لتقفز الظاهرة الكلامية فوق ذلك كله باتجاه إشراك مجازي يشمل الكائنات والمكونات الأخرى كجزء قد يتّصل أو ينفصل عن تلكم الذات. 
هي توصيفات رائقة ومتناغمة جدا استخدمت على نحو غاية في الإحكام، بغرض التوعية والتحسيس والتنبيه إلى هلامية الموضوع وما ينطوي عليه من خطورة في كليته.
وكأن لا مناص من انتقاء قاف هذا الرمز المعنى به ضديد ونقيض الحرية، المعرف/القضبان للتأكيد على خيرية وجوهرية الفكرة وعالمية الرسالة أيضا.
أقله،هكذا يجدر بنا التعامل مع قصيدة ترفل في تباهيها بشعبية لغتها و صفاء قاموسها وبسهلها الممتنع، طمعا في حيازة البعض من الأسرار المسكوت عنها ضمن مستويات الحمولات الوجدانية والفلسفية والكونية.
.1
جلسَ الشاعرُ خلفَ القضبان
فأخذَ يدمدمُ على الفور
بحروفِ قصيدته الموشومةِ بالأسى والأنين.
2.
جلسَ الطفلُ خلفَ القضبان
فأخذَ ينظرُ بعينين دامعتين
إلى الأطفالِ في ساحةِ الحلم
وهم يتقافزون
ضاحكين حولَ الكُرة.
.3
جلسَ الشحّاذُ خلفَ القضبان
وهو يحلمُ برغيفِ خُبز.
ظلَّ يحلمُ ويحلمُ
حتّى باغته النوم
فتكوّمَ على الأرض
هو وملابسه الرثّة.
.4
جلست العانسُ خلفَ القضبان
طويلاً
حتّى ملّتْ مِن القضبان
وملّت القضبانُ منها،
فكتبتْ حلمَها المخذول
أغنيةَ جناحٍ مكسور.
.5
جلسَ البريءُ خلفَ القضبان
فرأى القضاةَ والمحامين والجمهور
يتبادلون النكاتِ عِن الزحامِ وأحوالِ الطقس،
ويعلكون الكلماتِ الفضفاضةِ عن العدالة،
ويضحكون مِن حظّه الأسْوَد حدّ اللعنة.
.6
جلسَ الزمنُ خلفَ القضبان
وهو يرى الساعات
تفرُّ مِن بين يديه الضعيفتين
مثل طيورٍ فُتِحَ لها،
فجأةً،
باب القفص.
.7
جلست الجيمُ خلفَ القضبان
فرأت الحاء ترقصُ
وهي تشيرُ إلى الحُبّ،
وتضحكُ
وهي تشيرُ إلى الحرّيّة.
فيما كانت الجيمُ مُثقلةً
بنقطتِها التي صيّرتْها جُثّةً
تنزفُ ليلَ نهار
دماً وكوابيس.
8.
جلسَ السجّانُ خلفَ القضبان
فتلمّسَ فرحاً قسوتَها ووحشيّتها
ثمَّ ارتجفَ هلعاً
حين تذكّر أنّه الآن السجين
لا السجّان.’
9.
جلسَ البلبلُ خلفَ القضبان حزيناً.
فلأوّل مَرّة
نسي أغنيتَه التي أنشدَها
مِن قبل ألفَ مَرّة.
.10
جلست المرآةُ خلفَ القضبان
سوداءَ القلب
لأنّها كانتْ تنيرُ صورةَ القضبان.
.11
جلسَ الليلُ خلفَ القضبان
مُرتبكاً
لا يعرفُ ماذا يفعل،
لا يعرفُ كيفَ يخبرُ الفجرَ
بمأساته العجيبة.
.12
جلسَ الأسدُ خلفَ القضبان.
كانَ زئيره مُرعِباً
تتناثرُ منه جلودُ الحيوانات
والأفاعي وريشُ الطيور.
.13
جلسَ المنحوسُ خلفَ القضبان.
كانتْ ذاكرته تشبهُ سفينةً
تتقاذفُها الأمواج.
.14
جلست العاشقةُ خلفَ القضبان.
حاولتْ أنْ تتكلّم
فخذلَها قلبُها
وخذلَها لسانُها
وخذلتها الكلمات.
.15
جلست النونُ خلفَ القضبان.
بحثتْ عن نقطتِها،
لم تجدها
فارتبكتْ
مثل أمٍّ ضيّعتْ وحيدَها في السوق.
.16
جلسَ المنفيُّ خلفَ القضبان
فرأى صفوفاً من القضبان
لا تنتهي
أبداً.
.17
جلست التفّاحةُ خلفَ القضبان،
فَذُهِلتْ وهي ترى عشرات السكاكين
تحاولُ أنْ تنهشَ جسدَها.
.18
جلست الموسيقى خلفَ القضبان.
حاولتْ أنْ تتكلّم
فتحوّلَ كلامُها إلى أنين،
وحاولتْ أنْ تقوم
فرفسَها الشرطيّ
وأسقطَها على الأرض.
.19
جلسَ الصوفيُّ خلفَ القضبان،
جلسَ بقلبٍ مُطمئن
لأنَّ القضبان
لم تستطعْ منعَ قلبِه
مِن ترديدِ أسماءِ الله،
ولا البكاء
ما بين يديها المُقدّستين الطيّبتين.
تأسيسا على ما ذكر يتضح لنا جليا كيف أن الجلوس خلف القضبان،وبمعنى آخر حياة السجون، عبر النص ككل ،تمثل القاسم المشترك بين كل من الشاعر والطفل و الشحاذ والعانس وهلم جرا انتهاء بالصوفي.
سجن الشاعر جسدي لا أكثر ،وعبارة عن دهاليز للعدمية والعبثية والفراغ لا سلطة لها إطلاقا على الروح المتمردة عبر تأقلمها ومعايشتها لطقوس إكراهية،باعتبار الحلول المتاحة لها مختزلة في الممارسة الإبداعية لإفراغ ما يعتمل في النفس ويعسكر فيها من أسى موجب للتوجع والأنين.
كذلك سجن الصوفي كمحاكاة نوعية لحياة الشاعر خلف القضبان.في كلتا الحالتين يخول ما هو روحي كل أسباب التغلّب على الظرفية ومقارعة ما هو مادي صرف تكريسا للحس الإنساني النبيل.
خلافا لتمظهرات وألوان السجن العديدة لدى الحالات المتبقية، والملتقية في نقاط محددة كإيماءات مفاهيمية دالة على ما يشبه الاحتفاء بثيمة الحرية.
كلها تجليات تبعا لاختلاف الحالات الإنسانية،وحسب الإقحام القصدي لا العرضي لباقي المكونات إجمالا.
وهكذا فإن حقيقة سجن الطفل تتجسد في حرمانه من ساحة الحلم المزدانة بحراك الأقران حول الكرة ضاحكين.
وحقيقة سجن الشحاذ ماثلة في هيمنة هم الرغيف على العقل والروح معا،حدّ التشبع بهواجس كابوسية مهولة ترمز إلى سجن روحي قاتل.
وحقيقة سجن العانس كمينة في تبخر حلمها ببعل وبيت ونسل.
وحقيقة سجن البريء مجرد ملهاة وعمي معطل لفعل العدالة ،ومفوت على أجهزة السلطة العابثة، أي خيط نور ممكن أن يقود إلى رفع التهمة عن الشخص المسجون ظلما وعدونا.
خلاصة القول أن المستنبط من كهذا نص زئبقي مراوغ مستوف لأقصى شروط المتعة والإثارة. نص كريستالي محض توازي موسيقاه الداخلية كمّ التصورات العميقة والمنتفضة بعد تراكمات في الذهنية وإقامة في الوعي،لتأسر المتلقي بفلكلورية احتفالها بثيمة الحرية الفردية كضرورة للتوازن الذاتي والمجتمعي والكوني.
__________
*شاعر وناقد مغربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *